محمود القيسي
"بلا تحيّة الصباح
أرفع وجهي ويدي
في دربك الصاعد من الأسطورة
عبر الحواسّ الخمس"
* الشاعر سميح القاسم
لقد كشفت لوحة غرنيكا الفلسطينية في غزة العزة، أو بالأحرى لقد فضحت "الهولوكوست" الفلسطينية في العصر الحديث... عصر المعلوماتية الذكية، والصوت، والصورة، والموت المباشر قصفاً في مدينة غزة العصماء المحاصرة والممنوعة من الهواء والماء والغذاء والدواء والكهرباء... غزة العنقاء الممنوعة من كل أسباب الحياة والطيران... غزة المحاصرة بالموت والنار والحديد... غزة الممنوعة من كل شيء وكل شيء وكل شيء... لقد فضحت غزة المحاصرة والممنوعة من كل شيء مدى استراتيجية العلاقات والروابط والأهداف والمخططات الجهنمية المشتركة بين القوى والمصالح (الإمبريالية) الغربية وبين (الصهيونية) العالمية فكرة وتنظيماً وكياناً، وذلك على حساب شعوب (العالم الثالث) كلها... وتحديداً على حساب الشعوب العربية وخصوصاً عروس المرافئ والمراكب (فلسطين) واسطة عقده منذ أكثر من قرن حتى يومنا هذا.
"لا يوجد حيوان في العالم أكثر وحشية من الإنسان"، وليس أكثر ما يؤلم الضحية قسوة الجلاد ووحشيته، بل صمت المتفرجين والمراهنين... والساكت عن كل هذا الموت والدمار في غزة الأسطورة الحية ليس الشيطان، بل الإنسان الساكت عن الحق. وظلم ذوي القربى كما يقول طرفة بن العبد أشدّ مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهنّد... غزة المدينة (الصغيرة الكبيرة) كشفت مفهوم وحقيقة التحالف في هذا الصدد الذي لا يتضمن أي درجة من التكافؤ بين القوتين، إذ إن الثابت هو أن الصهيونية ليست إلا فرعاً من أصل (جذمور) الأيديولوجية والممارسة الإمبريالية. ولو أمعنا النظر أكثر في (جذور العلاقة الجذمورية)، لوجدنا أن هذا الزواج الكاثوليكي غير المقدس، نشاء كحل إمبريالي اصطناعي وعنصري لثلاثة تحديات أو مشاكل واجهت أوروبا القرن التاسع عشر في ذروة أيام الإمبريالية الغربية:
أولاً: نمو الإمبريالية الأوروبية وتوسعها جعل من الضروري البحث عن موارد جديدة للمواد الخام، وعن أسواق للمواد المصنعة، كما أن حماية خطوط المواصلات التجارية والعسكرية أدّت إلى الاهتمام بالسيطرة على المناطق الإستراتيجية العربية، باعتبارها مدخلاً إلى أفريقيا، وجسراً إلى آسيا، وذلك منذ غزوة (نابليون) لمصر، كما اتضح خطر نشوء دولة مستقلة تضم مصر والمشرق العربي منذ عهد محمد علي الكبير. ومن هنا تنبهت الإمبريالية، في وقت مبكر، إلى أهمية خنق أيّ محاولة وحدوية في مهدها قبل أن تشكل خطراً مضاعفاً على المصالح الإمبريالية في أعقاب الانتشار اللاحق للشعور القومي العربي إبان تفكك السلطة العثمانية في القرن التاسع عشر، وهذا ما سُمّي في الغرب "المسألة الشرقية".
ثانياً: اقتران فشل (الليبرالية) الأوروبية وأفكار (المساواة) و(الديموقراطية) في دمج اليهود واستيعابهم مع أزمة (الرأسمالية) في أوروبا الشرقية، عقب نشوء النظام الاقتصادي الرأسمالي فيها، وهذا نتج عنه فقدان عدد كبير من اليهود لمهنهم ونموّ (اللاسامية)، ونزوح عدد كبير منهم إلى أوروبا الغربية، وهذا ما سُمّي "المسألة اليهودية" التي تناولها كارل ماركس في كتابه الشهير - "المسألة اليهودية".
ثالثاً: انتشار النزعة القومية العدوانية و(الشوفينية) في أوروبا التي أكدت على الصفات (العنصرية) والأسس العنصرية للأمة والدولة القومية، بالإضافة إلى التفوّق القومي، والحاجة إلى التوسع والمجال الحيوي، الأمر الذي شجع على التطلع نحو المستعمرات والممتلكات عبر البحار كحل للمشكلة، وهذا ما أصبح يُعرف بـ(المسألة الاستعمارية)، الذي أثر في الفكر اليهودي السياسي في أواخر القرن التاسع عشر.
(رأس المال المالي الإمبريالي الصهيوني حوّل كل العالم بما في ذلك الإنسان والأمم الى أشياء وبضاعة. وعندما يصل الأمر الى هذا الحد من التغوّل المادي – الاقتصادي، تحت سيطرة "تزاوج الأيديولوجية الصهيونية مع التكنوقراط الأوروبي والأميركي لاحقاً"، فإن رأس المال الكبير يكتسب طابعاً فاشياً، ويأخذك بتشغيل آليات عنفه اللاعقلاني وينعكس ذلك في حروب وجرائم بحق البشرية كما يحدث الآن في غزة فلسطين أو الهولوكوست الفلسطيني المعاصر. نعم، لقد دفعت المسألة الأولى السياسي الإمبريالي بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا إلى تبنّي فكرة بناء حاجز بشري يهودي يفصل بين مصر والمشرق العربي في أعقاب الحملة العسكرية الأوروبية ضد جيوش محمد علي في المشرق، وشرحها في رسالة إلى سفيره في إستانبول عام 1840، أي قبل أكثر من نصف قرن من دعوة هرتزل للفكرة الصهيونية (والمؤتمر الصهيوني الأول) في بال.
وعلى الرغم من أن دعوة بالمرستون لم تلقَ الجواب الكافي أول الأمر، استمر العديد من السياسيين الاستعماريين البريطانيين والأغنياء من اليهود مثل عائلة روتشيلد ومونتفيوري في المناداة بالفكرة، ولا سيما أن أهمية الوطن العربي ازدادت وضوحاً مع فتح قناة السويس واعتماد المصانع على القطن المصري. إلا أن انفجار مشكلة (اللاسامية)، وازدياد هجرة اليهود من شرق أوروبا إلى غربها قوّى وتيرة التفاعل بين المفكرين اليهود والفكر الشوفيني والاستعماري، وقد أدت مجمل هذه التطورات إلى نشوء الحركة الصهيونية التي حددت منذ البدء استراتيجيتها انطلاقاً من المفهوم الكولونيالي (الاستيطاني) تحت المظلة الإمبريالية وفي الإطار الإمبريالي الغربي العالمي بما في ذلك محاربة انتشار الحركات الثورية في المجتمعات اليهودية في أوروبا، والعمل ضد الحركات والنظم التقدمية أو المعادية للاستعمار في العالم أجمع.
وإبان الحرب العالمية الأولى نجح التحالف الإمبريالي - الصهيوني في تحقيق هدفين مترابطين مشتركين، الأول: هو وضع مخطط تقسيم الوطن العربي وتجزئته بموجب اتفاقية (سايكس بيكو)، والثاني: هو إعلان المشروع الامبريالي - البريطاني - الصهيوني لاغتصاب فلسطين وصهينتها بموجب وعد (بلفور)، الذي كُرّس في معاهدات السلام التي تلت الحرب كالتزام دولي أبدته القوى الغربية الإمبريالية كافة في صك الانتداب البريطاني على فلسطين، على الرغم من أن عدد يهود فلسطين نسبة إلى السكان العرب كان ضئيلاً جداً آنذاك. وقد استطاع التحالف البريطاني - الصهيوني أن يشق الطريق أمام الغزو اليهودي لفلسطين عن طريق الهجرة والعنف أمام المعارضة العربية الفلسطينية، وعن طريق خطة منهجية (برعت فيها الصهيونية العالمية تاريخياً) لإفقار عرب فلسطين والشعوب المستهدفة... واغتصاب أراضيهم، وقطع سبل عيشهم، وقهرهم عموماً.
ومما زاد الطين بلة نجاح النازية في الوصول إلى سدة الحكم في ألمانيا، واضطهاد اليهود وتهجيرهم، الأمر الذي استغلته الحركة الصهيونية لزيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين على نطاق واسع. وعندما لجأ عرب فلسطين إلى إعلان الثورة ضد سياسية بريطانيا الرامية إلى صهينة فلسطين، جنّد قادة الإمبراطورية البريطانية حملات عسكرية واسعة النطاق، بل اضطرت بريطانيا عام 1938 إلى استدعاء الاحتياط لقمع ثورات فلسطين، وجندت التحالف الإمبريالي عن طريق تدريب عدد من الصهاينة للإغارة الليلية على الثوار الفلسطينيين. ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة هي القوة المرشحة لقيادة المعسكر الإمبريالي، وأن على الصهيونية أن تعتمد في مخططها - لإنجاز المرحلة الأخيرة من إعلان الدولة الصهيونية - على القيادة الجديدة الفتية للإمبريالية، وهذا ما فعلته الصهيونية في مؤتمر (بالتيمور) في نيويورك عام 1941.
وعلى أثر إعلان بالتيمور، ازداد نشاط الحركة الصهيوني في الولايات المتحدة واستحصلت على قرارات من الحزبين الرئيسيين بتأييد البرنامج الصهيوني أثناء الحرب، وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى نشطت سياسة الولايات المتحدة في تبني الصهيونية تبنياً كاملاً، وأخذت تضغط على بريطانيا للاستجابة الكاملة لمطالب الصهيونية، بعدما كانت بريطانيا قد دخلت مرحلة التناقض الجزئي والعابر مع المتطرفين والإرهابيين اليهود، الذي يشكل مرحلة مألوفة من مراحل العلاقة بين الكولونيالية المحلية، والدولة الإمبريالية الأم. كذلك أسهمت الولايات المتحدة - بشكل أو بآخر - بتسليح العصابات الصهيونية ومارست على المكشوف نفوذها القوي لتأمين الأصوات اللازمة في الأمم المتحدة لقرار (تقسيم فلسطين) عام 1947.
كذلك أدّت بريطانيا من جهتها دوراً في لجم ردة الفعل العربية الحكومية والعسكرية لتأمين ولادة الدولة الصهيونية عام 1948، بعدما أشرفت على نزع السلاح التام من يد عرب فلسطين. وبعد ولادة الكيان الصهيونى عملت الدول الغربية الاستعمارية على مده بأسباب القوة والحياة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وقامت بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا بضمان أمن إسرائيل وفق الحدود القائمة آنذاك في (البيان الثلاثي) الصادر عام 1950 مقرة بذلك توسعها على حساب العرب، علاوة على ما تضمّنه التقسيم من اغتصاب للأراضي العربية. كذلك مولت الإمبريالية الكيان الصهيوني عن طريق المساعدات والتبرعات والقروض الأميركية والدولية، وعن طريق (التعويضات الألمانية) التي بلغت في مجموعها عبر عقدين من الزمان في تلك الفترة آلاف الملايين من الدولارات والعملات الأخرى.
منذ أوائل خمسينيات القرن المنصرم، الولايات المتحدة الأميركية تقرر وتشارك في الحروب العسكرية “الإسرائيلية” ضد البلدان العربية؛ وتتولى مسؤولية السياسة الخارجية والدفاع الاستراتيجي عن “إسرائيل”؛ وتدعم اقتصادها؛ وتقرر في انتخاباتها وفي الاستيطان وتمويل المستوطنين والمستوطنات؛ وهي مستعدة أيضاً للدخول في حرب نووية في سبيلها، وتعتبرها فعلاً مصلحة قومية لها. بالإضافة إلى ذلك نلاحظ وجود عملية متصاعدة للتماثل والتناظر في هيكليات دولتية في “كلا البلدين”، وخاصة في ميادين السياسة الخارجية والخدمات الامنية والعسكرية وفي قضايا عديدة ومتنوعة أخرى. في هذا السياق، يرى زبيغنيو بريجينسكي “أن الحيثيات المتعلقة بالأرض ما زالت تشكل المحفزات الرئيسية الناظمة للسلوك العدواني للدول القومية والإمبراطوريات تاريخياً.
في بعض مقتطفات من مقاله "طلسم إسرائيل" كتب إيكتور ديّاس بولانكو: “طلسم إسرائيل ما زال يجد له عدة تفسيرات. لا أحد يتجاهل أن الدولة الصهيونية تتمتع بعصمة مطلقة من العقاب لأنها تحظى بالدعم اللامحدود من قبل القوى الغربية. لكن، ماذا يفسر في الوقت نفسه ذاك الدعم اللامحدود؟ الجواب الأول يقول بأن الصهيونية قد تحوصلت بقوة في هيكليات السلطة والرأي العام الغربي ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، واستطاعت أن تقلب العلاقة التي يوحي بها الحسّ السويّ: بدلاً من أن تكون سياسة القوى الغربية هي التي تحدد تلك العلاقة، فإن الصهيونية هي التي تفرض شروطها على تلك القوى. هناك كتب ومقالات جدّية تتبنى هذه الأطروحة.
الجواب الثاني يقدمه بشكل خاص مفكرون يهود وأعتقد أنه مناسب. بإيجاز، يقولون إن ما يفسر سلوك “الدولة الإسرائيلية” موجود في نفس تشكلها التاريخي. اليهودي الأرجنتيني ليون روزيتشنر (León Rozitchner) في مقالة حادة نشرها عام 2009، يطرح أن “دولة إسرائيل” تم تشكيلها على يد قطاع معيّن من الجالية اليهودية: أي “اليهود الأوروبيون المندمجون” الذين أصبحوا، بواسطة الأيديولوجيا الصهيونية، “يهوداً – مسيحيين”. الغرب هو من حفّز مشروع توطينهم خارج أوروبا، في فلسطين، وتأسيس دولة فيها “في خدمة السلطان المسيحي – الامبراطوري” البريطاني بداية والأميركي لاحقاً . لقد ذكّرنا جاك هيرش (Jacques Hersh) بأن وينستون شيرشل (Winston Churchill) قد أفصح عام 1920 بتهوره البلاغي المعروف، عن أن إقامة دولة يهودية تتناغم مع “أكثر مصالح الإمبراطورية البريطانية أصالة”.
نعم، لم يتوقف الحقد الإمبريالي الغربي على حركة التحرر العربي في خمسينيات القرن الماضي من (حلف بغداد) الاستعماري إلى (عدوان السويس) على مصر عام 1956. هذا دون أن ننسى إعلان (مبدأ أيزنهاور) الذي تضمّن حماية الوجود الصهيوني الغاصب عن طريق نشر السلم الأميركي، بواسطة الأساطيل والأحلاف العميقة، وعن طريق تقوية الكيان الصهيوني عسكرياً علاوة على المساعدات الأميركية المستمرة والموقف المعادي الدائم إزاء حركات التحرر العربية. وفي عام 1963، نظمت الولايات المتحدة حلفاً ضمنياً بين إيران وتركيا وإثيوبيا والكيان الصهيوني، لضمان أمن إسرائيل كرد على قيام (ميثاق 17 نيسان) الوحدوي بين سوريا ومصر والعراق. وفي عهد الرئيس جونسون، خططت الولايات المتحدة لضرب الحركة التحررية في (العالم الثالث)، بواسطة التخطيط لعدوان عسكري فكان عدوان الخامس من حزيران/ يونيو 1967.
هذا دون أن يغيب عن وعينا التاريخي الضغط الدولي عن طريق الضغط السياسي والاقتصادي الذي مارسته الولايات المتحدة على دول عديدة وعن طريق استخدام (حق النقض) في الأمم المتحدة، والجسر الجوي العسكري الضخم الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية في حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 لإمداد القوات الإسرائيلية في تلك الحرب. ومن جهة أخرى عملت الحكومة الأميركية على تطويع النظام المصري وتشجيعه على سياسة المفاوضات، والتصعيد ضد الحكومة السوفياتية لحدود القطيعة، والانتقال لمبادرة (السادات) في زيارة الكيان الصهيوني، وانتهاءً باتفاقية (كامب ديفيد) ومعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية - الأميركية في آذار/ مارس 1979 التي كان لها من التداعيات التي ما زال يعيشها العالم العربي حتى هذه اللحظة.
ومن المؤكد أن الصهيونية كانت وما زالت تعتبر نفسها الابن المدلل والبار للإمبريالية العالمية، وأن الإمبريالية بدورها كانت وما زالت تعتبر إسرائيل بمثابة قاعدة أمامية، وأداة عدوانية فعالة لها في حروبها ضد حركات التحرر والوحدة والتقدم في الوطن العربي تاريخياً، حيث تملك الإمبريالية مصالح نفطية واقتصادية وسياسية واستراتيجية ذات أهمية كبرى. ومن هنا كانت قوة التحالف وفعالية التداخل الصهيوني - الإمبريالي في العواصم الإمبريالية ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية نفسها. ومن هنا أيضاً يصطدم نضال الشعوب العربية لتحرير فلسطين مباشرة بالظاهرة الإمبريالية في عصر اعتمادها على النفط والعائدات المالية النفطية، وبالتالي لا بد من هزيمة التحالف الإمبريالي - الصهيوني كشرط من شروط تحرير فلسطين. نقطة على أول السطر.