ألغت الجامعة الأميركيّة في بيروت محاضرة كان منويّاً عقدُها عبر تقنية "الزوم"، تحت عنوان "أخلاقيّات الحرب في غزّة"، وتضمّ الندوة التي كانت ستُعقد يوم الجمعة 11 تشرين الثّاني/ نوفمبر، كلّا من أستاذ القانون والفلسفة في جامعة روتجرز في ولاية نيو جيرسي أليك والين، وبشّار حيدر، أستاذ الفلسفة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.
في رسالتها إلى أعضاء الجامعة حدّدت الإدارة سبب الإلغاء وهو "التهديدات الأمنيّة"، حيث اضطُرّت للتدخّل وإلغاء الحدث الافتراضيّ الذي استضافه "كرسيّ محمّد عطا الله للأخلاقيّات".
الجامعة الأميركيّة ختمت في رسالتها تأكيدها على "عدم التسامح مع خطاب الكراهية والتحريض على العنف"، مشيرة إلى التزامها الدائم بالحفاظ على الحرم الجامعيّ كمساحة مفتوحة وآمنة، حيث تتمّ حماية الحرّية الأكاديميّة وحريّة الفكر والتعبير.
في المنطق، يبدو أنّ إلغاء المحاضرة تحت ضغط المبرّر الأمنيّ، سقطة كبيرة ستدخل في تاريخها، ويجعلها كأحد أعرق الصروح الأكاديميّة وحصون الفكر الليبراليّ في الشرق، خاضعة لـ"تنمّر" القوّة الحاكمة في لبنان، أي "حزب الله" ومعه محور الممانعة الذي يرفض الحوار ولغة العقل ويروّج لفكرة الحروب "المهدويّة" التي تصبّ في خدمة مشروع "الحرس الثوريّ الإيرانيّ".
سيقول البعض إنّ "حزب الله" غير معنيّ أو مرتبط بتلك التهديدات التي أخذتها "الإدارة" على محمل الجدّ، ولكنّ سلسلة "الاتّهامات"، والهجوم الذي تعرّضت له الجامعة منذ شهر، وتحطيم بعض ممتلكاتها، تؤكّد أنّ مصدر التهديدات الأخيرة ليس عابرَ سبيل ولا أيّ مجموعة لا تمتلك القوّة الرئيسيّة في البلد.
الجدل والنقاش الذي رافق إعلان المحاضرة تضمّن ردَّ فعلٍ عنيفاً من بعض الزملاء في الجسم التعليميّ ومنهم من قدّم نقاطاً - لربما صائبة - في سحب دعوة الجامعة إلى أليك والين تحت ذريعة ترويجه للفكر الصهيونيّ وتبريره للمذبحة المستمرّة في غزّة، وهذا بطبيعة الحال كلام مضلّل، إن لم نقل كاذباً، ويستند إلى تصريحات مجتزأة وموضوعة ضمن سياق سياسيّ يعتبر أنّ اعتراف المرء بوجود "دولة" إسرائيل وحقّها في الدفاع عن نفسها تجعل منه مناصراً للعنف والقتل اللذين يحصلا ضدّ المدنيّين في قطاع غزّة بحجّة اقتلاع حركة حماس.
خلال اليومين السابقين لإلغاء الندوة جرى تبادل كثيف للرسائل الإلكترونيّة، ورغم أنّ النقاش "الإلكتروني" عادةٌ يحصل بشكل يومي ويتناول أموراً متعدّدة منها موضوع "القطط في حرم الجامعة" أو بعض "الكتابات الطفوليّة" على جدران الصفوف الدراسيّة، ولكنّ "تبادل الرسائل الإلكترونيّة" فاض في حرم الجامعة نهار الجمعة بتظاهرة "طلابيّة" حاولت وصم المنظّمين بالصهيونيّة داعية لهم بالموت، إلى درجة أنّه لم يكن في الإمكان وصف بعض القائمين بها إلّا بـ"الانحلال الأخلاقيّ والأدبيّ" من الذين يستفيدون من أموال ورواتب تأتيهم من منح وبرامج مرتبطة بالغرب، في حين يرفضون السماح لنقاش أكاديميّ بسيط أن يُعقد، ولربما الأسوأ قيامهم بذلك بالتنسيق مع بعض الأحزاب الشموليّة.
من الجائز أن يرفض البعض فكرة الدعوة، ومن حقّهم مقاطعتها، ولكن ليس مقبولاً أن يتمّ تجييش الطلاب والتنسيق مع أفراد من خارج الجامعة لـ"تحليل دم" من يعتقد بأنّ النقاش حول "أخلاقيّات الحرب" التي تعرّي السرديّة الإسرائيليّة أجدى من الأهازيج التي تمجّد "محمّد الضيف" القائد العسكريّ لـ"حركة حماس"، وشعارات بائدة مثل "الموت لإسرائيل" التي ردّدها بعض "التلامذة الغاضبين" أمام البوابة الأساسية للجامعة، وهو مشهد يدفع إلى التفكير بأهل هؤلاء الشبان، ومنهم مناصرون لـ"حزب الله" ممّن يصرفون ثروات صغيرة لتعليم أبنائهم وتزويدهم بحجج وشهادات تمكّنهم من تغيير "العالم الأسود" من حولهم، لا أن يكونوا أبواقاً لمشاريع "استشهاديّة" تستعمل دماء الأبرياء في خدمة "القلوب السوداء".
اللافت في ما حصل أنّ معظم المشاركين في التحرّكات الرافضة للندوة هم أنفسهم كانوا خلال الأيام الماضية من المستائين من قيام "معرض فرانكفورت للكتاب"، بإلغاء حفل توزيع جائزة الروائيّة الفلسطينية عدنية شبلي، عن روايتها "تفصيل ثانويّ". كذلك هم أنفسهم المعترضون على سحب لوحتين للفنّان التشكيليّ اللبنانيّ أيمن بعلبكي من مزاد تنظّمه "دار كريستيز" في لندن، والاعتراض على إلغاء حفل "شبلي" وسحب لوحتي "بعلبكي" هو أمر طبيعيّ، ومطلوب أخلاقياً للدفاع عن الأدب والفنّ والفكر، وفي الوقت نفسه رفضاً للانتقائيّة و"تحليل الدم" الذي يمنع جامعة تاريخها عظيم في المنطقة من عقد ندوة تناقش الأخلاقيّات في الحروب.
الجامعة الأميركيّة في بيروت وعلى مرّ أكثر من قرن ونصف القرن من وجودها شكّلت منارة للعقل والمنطق، ولكنّ ما حصل خلال الأيام الماضية من تحريض وتخوين وتسريب للنقاش الحاصل مع الأساتذة والذي استُعمل في دعوات القتل والعنف والتهديد - وذلك باعتراف الإدارة- يأتي ليذكّرنا بحقيقة واحدة لا غنى عنها، فالفكران "الصهيونيّ" و"الممانع" يتقاسمان الحمض النوويّ الفكريّ نفسه، برفضهم أو هروبهم من مقارعة خصومهم بالنقاش والسياسة وحتّى الإقناع.
المشكلة في لبنان ليست فقط في الانهيار الاقتصاديّ والاجتماعيّ الحاصل، ولا حتّى في الشغور الرئاسيّ، بل في قوّة التهديد والترهيب، ليتمكّن أصحاب "القوّة" من تهديد "الجامعة الأميركيّة في بيروت" وإرضاخها كما حال اللبنانيّين، رضوخاً "بشعاً" أمام ثلّة تعتبر الغموض البنّاء والمسرحيّات الجهاديّة طريقاً للتحرير، في حين أنّ بوّابة الجامعة الأميركيّة تتكلّل بعبارة من الإنجيل المقدّس "لتكن لهم حياة وتكون حياة أفضل" وهي عبارة ضاعت مع ما حصل اليوم، أو جعلتها بموضع وقف التنفيذ.
لربما على إدارة الجامعة في المئويّة الثانية أن تُعيد التفكير في هذه العبارة وتستعمل شعار "صفر خوف" الذي أطلقه الصديق والرفيق الذي قُتل في الجنوب اللبنانيّ لُقمان سليم، شعاراً يضمن رسالة الجامعة الأميركيّة الإنسانيّة وقدرتها على الصمود في وجه البرابرة على "جدرانها" وفي – حال بعض- صفوفها.