ما الذي يجري في روسيا؟ هل انتهى التمرد بالفعل؟ أم أن هناك تداعيات وارتدادات آنية ومستقبلية، معلنة ومستترة؟ هل انتهت منظمة فاغنر تماماً؟ أم أن فروعها الخارجية ستواصل خدمة المصالح الروسية في العالم؟ وهل سيفي الرئيس الروسي والرئيس البيلاروسي بوعودهما للمتمردين؟ أم أن العفو خدعة لإطفاء الفتنة وإضعاف أصحابها، ثم يتم الغدر بهم كما تم بعشرات الجنرالات والقيادات السياسية والحزبية من قبل؟
بعد المكالمة التي تمت بين الرئيس بوتين وولي العهد السعودي، أين تقف السعودية من هذه الأزمة؟ وهل ستواصل خروجها على النص الغربي وتدعم موسكو؟ وماهي مصلحتها من ذلك؟ وماذا عن المواقف الخليجية والعربية، ودول أوبك؟ وهل سيؤثر ذلك على العلاقات مع المعسكر الغربي؟
صناعة قوى الظلام
ما حدث في روسيا هو نتيجة طبيعية للتعاون مع العصابات الإجرامية وتربية الوحوش البشرية. وهو ما حدث عبر التاريخ عندما استخدمت دول وجماعات عناصر خارجة على القانون للقيام بالأعمال القذرة التي لا يستطيعون أو لا يريدون القيام بها بأنفسهم. ففي نهاية المطاف، لا بد أن يحدث خلاف على الغنيمة أو السلطة فينقلب السحر على الساحر، والعبد على أسياده.
وهو أيضاً نتيجة متوقعة لإنشاء مؤسسات بديلة وموازية للمؤسسات الرسمية، فتتحول مع الوقت إلى سلطة الظل التي تتمتع بميزة العمل في الظلام، بلا رقابة ولا نظام. وهي إن خدمت المؤسسات التي أنشأتها في ظروف تقاطعت فيها المصالح، سرعان ما تكبر عليها، وتتمرد على سلطتها عندما تتضارب الأهداف والغايات.
تخصيص المافيا
وفي العصر الحديث، سبقت روسيا إلى إنشاء هذه المنظمات ألمانيا النازية، عندما استغلت حماسة الشباب وأسست لهم ميليشيات مستقلة عن الجيش والقوى الأمنية، كلفت بمهام يحاسب عليها القانون الدولي، وبارتكاب جرائم حرب. كما فعلت الولايات المتحدة عندما تعاونت مع المافيا الإيطالية في عهد الرئيس جون كنيدي للوصول إلى السلطة بتزوير الانتخابات وتوجيه الرأي العام، ثم تصادمت معها وأعلنت الحرب عليها. وانتهت المعركة التي قادها الأخ الأصغر، المدعي العام، روبرت كنيدي، باغتيال الرئيس، ولحق به أخوه عندما قرر ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية لمواصلة معركته مع المافيا.
وفي العقود الأخيرة، لجأت أميركا إلى خصخصة العمليات القذرة فسمحت بقيام شركات أمنية خاصة، مثل "بلاك ووتر"، وكلفتها بإدارة الأمن في مناطق النزاع الخطرة، مثل العراق، وتغاضت عن أو تبرأت من جرائم الشركة ضد الإنسانية وتجارتها المحرمة في البشر والسلاح والمخدرات.
فمن ناحية هي ليست مسؤولة بشكل مباشر عن العمليات الخاصة للشركة خارج أميركا، ومن ناحية لا تقل أهمية، فإن أعداد القتلى لا ترصد، ولا تصل أكفانهم مغلفة بالعلم الأميركي أمام الشاشات والكاميرات، فيحاسبهم عليها الإعلام والناخب.
تبنّي الخوارج
وفي السابق، كانت الدول العظمى تلجأ إلى الحرب بالوكالة، فتدعم مليشيات وعصابات وجماعات متمردة في البلدان التي يهمها السيطرة عليها، وهكذا تعاقد الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وفرنسا والصين وغيرها مع من يؤمّن لها إضعاف الأنظمة القائمة واشغالها بحروب وصراعات داخلية. ويقاتل بالنيابة الجماعات التي تنتمي إلى الخصوم. وتحوّلت بذلك بلدان الشرق الأقصى وأفريقيا وجنوب أميركا إلى ساحات حرب أزلية، كما في فيتنام وكمبوديا والسودان ونيكاراغوا، حتى نهاية الحرب الباردة.
اليوم، "تعود حليمة إلى عادتها القديمة"، فبعد أن ضعفت الدوافع بانتصار المعسكر الغربي، وانسحاب روسيا من الساحات الدولية، عادت الدول الكبرى لتبني الخوارج على الأنظمة والقوانين، وأضفت عليها الشرعية باسم الديمقراطية حينا، وتطهير البلاد من العملاء والفاسدين حينا آخر. تعدّدت الأسباب والتمرد واحد. وأخذ العرب نصيباً أوفر من هذه العودة.
"البعبع" العربي
فكما يحدث في السودان واليمن وسوريا، يحدث في لبنان والعراق وليبيا، فقد أطاحت أعاصير "الربيع العربي" العروش والأنظمة، واستكملت ما بدأه مشروع "الفوضى الخلاقة" في بلاد الرافدين من تقسيم وإعادة رسم الخرائط.
لجأت بعض الزعامات لاستزراع "البعبع" ممثلاً في قوى إرهابية كالقاعدة وداعش لكسب تعاطف العالم وتهديده بها في نفس الوقت. ولجأت أخرى لاحتواء القوى الصاعدة والمدعومة من الخارج، كالحركة الحوثية لمواجهة القوى التقليدية كحزب الإصلاح والسلفيين.
واستسلمت دول منقسمة القيادة وضعيفة الإدارة لصعود أحزاب مسلحة كما في لبنان والعراق. وكانت النتيجة استقواء الخوارج بالخارج على حلفاء الداخل. وتأمين مواردهم الخاصة للمال والسلاح والتجنيد. وباتت هذه الدول تحت رحمة الجماعات ومؤسساتها الرسمية أضعف من أن تواجهها. فـ"لبعبع" الذي كان مصنوعاً أصبح صانعاً، وحقيقة تهدد صانعيها بأكثر من خصومها.
فتنة فاغنر
الذي حدث في روسيا لا يبعد كثيراً عن هذه الصورة، وكان يمكن أن ينتهي إلى ما انتهت اليه في البلاد العربية لولا اليقظة التي قادت إلى مواجهة مبكرة أنهت التمرد في مهده. الجماعة الارهابية كانت تخدم اهدافاً خارجية، في سوريا وليبيا والسودان وافريقيا الوسطى وصولاً إلى جنوب أميركا. وكانت موسكو تتبرأ من أعمالها وتنفي صلتها بها، رغم أن أنشطتها التجارية غير المشروعة في الذهب والألماس والمعادن الثمينة والسلاح تعود بالمليارات على الخزينة الروسية. وأن جلّ أعمالها في بلدان لموسكو فيها مصالح سياسية واستراتجية.
كان كل ذلك تحت السيطرة حتى اضطر الكرملين إلى الاستعانة بقوات فاغنر في أوكرانيا بعد فشل الجيش في تحقيق نتائج سريعة وحاسمة. فقد اقترب الوحش من عقر سيّده، وزادت خطورته عندما سُمح له بتجنيد المساجين والأفارقة وغيرهم من المرتزقة وشذاذ الآفاق.
انقلاب السحر على الساحر
لم تكن قيادة الجيش الروسي سعيدة بهذه المنافسة التي زادها ألماً تبجح ومباهاة يفغيني بريغوجين بإنجازاته وانتقاداته اللاذعة لوزير الدفاع ورئيس الأركان. وعليه تعمدت قيادة أركان الجيش عدم دعم عملياته بتأمين الحماية الجوية والنارية لقواته، أو توفير احتياجاتهم من الذخيرة والوقود والطعام.
وكنتيجة، لم تحقق الميليشيا ما كان مأمولاً منها، واهتزت صورة قيادتها، فانقلبت على وزارة الدفاع وقيادة الجيش لتبرير فشلها وخسائرها الهائلة في الأرواح والعتاد. ووجدت لهذا النقد والغضب صدى بين بعض القادة وأفراد الجيش الذين زُجّ بهم في أتون المعركة بلا تخطيط واستعداد وتهيئة كافية. بدليل أن قوات المتمردين قطعت قرابة الثمانمائة كيلو متر حتى باتت على مسافة 200 كيلو متر من موسكو، بدون مقاومة تذكر.
بقية القصة معروفة، فقد وجد الرئيس الروسي بوتين نفسه مخيّراً بين الاستجابة لمطالب حليفه، "طباخه" السابق، خريج العصابات والسجون، بريغوجين، بإقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان، على حساب هيبة الدولة، أو تدمير قوة ضاربة وتحمل خسائرها الدولية. اختار، ربما بعد تردّد، ولكن بحسم، التضحية بالبعبع الذي تحول عن مهامه المطلوبة عندما اقترب من قلب السلطة، وهدد بفتنة قد تقود إلى انقلاب عسكري أو صراع داخلي دموي.
وجاء العرض البيلاروسي باستقبال بريغوجين ونخبة قواته، وعفو بوتين عنهم، وعرض عقود عمل في الجيش لمن لم يشارك في التمرد، لينقذ الموقف بدون سفك الدماء وإضعاف الدولة وتكريس الانقسام. وتصوري أن الرئيس سيحترم وعوده إلا إذا أخلّ الطرف الآخر بالتزاماته.
الموقف السعودي
أما بالنسبة إلى الموقف السعودي، فقد كان وما زال وسيبقى مع سيادة الدول وهيئاتها وأجهزتها الرسمية، وضد الميليشيات والعصابات وحكومات الظل. ومع هذا الموقف تشاركت بقية الدول الخليجية والعربية. فقد عانت منطقتنا ولا تزال من هذه الكيانات المسلحة، ودفعت ثمناً غالياً على حساب أمنها ورخائها ومسيرتها التنموية.
وعلى نفس الطريق مضى أعضاء "أوبك بلاس"، فضعفُ عضوٍ ضعف للمجموعة، خاصة إذا كان هذا العضو بحجم ومكانة روسيا الاتحادية. واستقرار موسكو من أمن واستقرار أسواق الطاقة. ويكفي ما سبّبته أزمة أوكرانيا من تداعيات على المصالح والأسواق العالمية، النفطية والمالية والغذائية.
أما المعسكر الغربي، فقد بات يدرك أن العالم لم يعد كما كان بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية القطبية الدولية وتسيّد أميركا وأوروبا النظام العالمي الجديد. السعودية تبحث عن مصالحها وتسعى الى تحقيق أهدافها الوطنية والقومية، وتتعامل بندّية وسيادية وحيادية ايجابية مع القوى العالمية. وهذا هو الموقف الذي أعلنته جميع الدول العربية في قمة جدّة للأمن والتنمية. وعلى المعسكر الغربي أن يتعايش مع هذا الواقع، شاء من شاء، وأبى من أبى!
@kbatarfi