النهار

مخاض الشرق الأوسط بين الأجنّة الاستراتيجية و"متلازمة السراب العربي"!
هادي جان بو شعيا
المصدر: "النهار"
مخاض الشرق الأوسط بين الأجنّة الاستراتيجية و"متلازمة السراب العربي"!
مشهد من الحرب في سوريا.
A+   A-
قد يتراءى للبعض كما قد يظن، ويربط ويحلّل البعض الآخر، بأن كلّ ما يجري في منطقة الشرق الأوسط يُشير إلى أن الإقليم متّجه نحو مزيد من التفاهمات الكبرى، وصفقات تاريخية من شأنها أن تسوّيَ ملفاتٍ وخلافات، بعضها مستجدّ وطارئ، وبعضها الآخر تاريخيّ ومزمن. فلبنان وإسرائيل الرسميَّيْن يتحدّثان عن إنجاز مهمّة ترسيم الحدود البحرية بينهما، وفق ما يذهب إعلام الطرفين في قراءاته وتحليلاته إلى أنه لم يتبقَّ سوى موافقة الولايات المتحدة الأميركية على الاتفاق.

لعلّ إنجاز هذه المهمة، التي بقيت لوقت طويل قضيّة معقّدة، يُظهر، لا بل يؤكد أن ما كان يُعرقلها هو التوصل إلى اتفاق نوويّ مع إيران من عدمه، حيث بات جليًّا أن جميع الملفات في الشرق الأوسط متداخلة ومتشابكة بإيران غالبًا، فيما يبدو أنّ طهران تمضي قدمًا في إحراز تقدّم في المفاوضات مع الرياض، وإلا لما كانت هذه الانفراجة لتحدث في ملف الحدود اللبنانية - الإسرائيلية بينما ينتظر العراق نتائج ومآلات الحوار بين إيران والسعودية ليَجنيَ ثماره، سواء أكانت مُرةً أم حلوة!
وبالتزامن أيضًا التأم شمل خمسة من قادة العرب في مدينة "العَلَمَيْن" المصرية لبحث ملفات عدة من قضايا المنطقة، لكن زعماء هذه الدول التي كانت قد أطلقت في وقت سابق مشروع "الشام الكبير" أو "الشام الجديد" لم يظهر على أجندتهم في القمة الأخيرة أيّ شيء يتعلّق بالشام.. بدمشق.. بسوريا!

إذن ما يدعو للتساؤل هو هل أيقن العرب تمامًا بغيابهم عن الملف السوري؟
يبدو ذلك بالفعل. ولعلّ التكالب التركي لتطبيع العلاقات مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد برعاية ووساطة روسية - إيرانية ينطوي في أحد أوجهه على جزء من التحوّل الكبير في الشرق الأوسط، وجزء من التفاهمات التي تنشأ في الإقليم، وحتى جزء من الصفقات الكبرى التي تشهدها المنطقة.

لكن اللافت للنظر أن روسيا هي مَن تُشرف وتسهر على إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق بينما تقود الولايات المتحدة بقيّة التسويات في المنطقة، ممّا قد يشي بأنّه جزء من صراع بين الدّب الروسي والمارد الأميركي كما قد يكون جزءًا من تفاهم أو صفقة بينهما؛ ذلك أن البلدين في مواجهة مفتوحة ومنتشرة في كلّ مكان من أرجاء المعمورة وليس في أوكرانيا فقط. لكن من قال إنّ المواجهة يجب أن تكون مستعرة في ميادين المبارزات كافة، وإنّه لا يمكن تبريد بعض الجبهات بغية التفرّغ لإشعال النيران في أخرى؟!

بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل دخلت المنطقة خانة "الترجمة العملية" لاستراتيجية فرض الاستقرار وتعزيزه في منطقة الشرق الأوسط، وفق ما تُشير المعطيات الآتية من واشنطن، أم بهدف التفرّغ للمواجهة المرتقبة بين روسيا والصين، بعد أكثر من عقد التهبت فيه المنطقة وتحوًلت إلى قطعة من جهنّم. وإذا كان الأمر يمضي وفق هذا المسار - وفق ما تريده أميركا - فما هي مصلحة الروس في المشاركة بإطفاء نيران الشرق الأوسط عبر إنجاز مصالحة بين تركيا وسوريا، فضلاً عن تشجيع الحوار بين طهران والرياض، أم أن ذلك يجري بغية أن تتفرّغ بدورها للتصدّي لأميركا.

أمام ذلك كلّه، يبرز سؤال: أين دول الإقليم، التي تتهافت على إبرام صفقات وعقد تسويات، من كلّ ما يجري؟ هل تقتنص الفرص القائمة وتتلقّف الأجواء المهيّأة لإنجاز تفاهمات طال الأمد عليها أم أنها تسير مُرغمةً، بشكل أو بآخر، في ركاب القوى العظمى، أم أن زمن السير في الركاب قد ولّى إلى غير رجعة؟!

عود على بدء، وذلك ضروري للتأكيد أن من يراهن، أو يظن، أو يعتقد أن ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من محادثات وتسويات من هنا، وعقد اتفاقات ولقاءات وقمم صغيرة وأخرى كبيرة من هناك سيجلب الاستقرار والازدهار للمنطقة فهو مخطىء، وذلك لأسباب عدة.

في حقيقة الأمر، وإذا ما أمعنّا النظر في الإرهاصات التي تظهر في المرحلة الراهنة فهي تؤكد أن منطقة الشرق الأوسط، التي لا تكاد تنتهي من مخاض حتى تدخل في آخر أكثر عسرًا، حيث لن يكون هناك جنين واحد بل عدّة أجنّة مرشّحة لتولد في المنطقة. ولعلّ المعضلة الأهم تكمن في قادة الدول العربية التي تساهم، بشكل أو بآخر، في إضفاء الضبابيّة على المشهد العام عبر تعدّد الأجنّة السياسية والاستراتيجية؛ وذلك مردّه إلى المغالاة في تبسيط المقاربات، ممّا يُوهم الرأي العام بأن هناك وحدة متجانسة اسمها "الشرق الأوسط"، بينما، وانطلاقًا من المفاهيم الجيو- استراتيجية، هناك أكثر من شرق أوسط واحد، وأكثر من خليج واحد، وأكثر من شمال أفريقيا واحد.

يضاف إلى كلّ ما تقدّم سوء التقدير نتيجة تبسيط التحليل، إذ يعتقد كثيرون أن مضاعفات الحرب في أوكرانيا وتداعياتها بمثابة تلك الشمّاعة، أو ذاك السياق، أو ربما القاسم الذي من شأنه أن يفصل الدول العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، أي من مدينة طنجة إلى العاصمة بغداد، ممّا يُشير إلى أنّ المرحلة الحالية تتطلّب قياس وتقويم التحالفات العربية الاستراتيجية على غرار ما حدث إبّان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، إلا أن هذه الازدواجية لم تعد سائدة اليوم؛ ذلك أن المنطقة تسيل لعاب القوى العظمى عبر مشاريع عدّة، نذكرها في عجالة:

- المشروع الروسي الذي ينطلق من سوريا إلى ليبيا أو الجزائر لإنشاء قاعدة عسكرية.
- المشروع الأميركي الذي يعود الآن إلى العالم العربي وحتى القارة الأفريقية انطلاقًا من باب التعاون، وليس من خلال الفتاوى السياسية، مع انخفاض واضح للنبرة الأميركية بالتزامن مع تغييب الفتاوى السياسية، نتيجة إعادة النظر في الاستراتيجية الأميركية، وإن كان احتواء الصين يبقى في المقام الأول.
- المشروع الصيني "الهادئ" الذي لا يعكّر صفو المياه الراكدة، لكنه يغزو الأسواق، ويبرم الصفقات والارتباطات التجارية، ممّا سيجعل المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي امتدادًا لمبادرة الحزام والطريق أو مبادرة الحرير الصينية.

- المشروع الإسرائيلي الذي يعتقد أنه بلغ ربيعه الاستراتيجي عبر بوابة الاتفاقات الإبراهيميّة، وتطبيع عدد لا بأس به من الدول العربية علاقاتها مع تل أبيب، وإيهامهم لها بأنهم أضحوا "أهل البيت" وأصحاب المفاتيح في هذه المنطقة، غير أنهم باتوا "الحارس الإقليمي" لمصالح واشنطن في هذه المنطقة، حيث يبرز خلاف بين أميركا وإسرائيل.

- المشروع الفرنسي المتهالك والمتآكل في شمال أفريقيا وغربها، وخروجه من الباب الصغير في مالي، ومحاولة الرئيس الفرنسي إعادة الدخول من بوابة الجزائر، انطلاقًا من قضايا وتحدّيات عدّة، أبرزها ملفات الذاكرة والحرب في أوكرانيا، والغاز الجزائريّ، والتأشيرات والأمن في منطقة الساحل الأفريقي وغيرها.

- المشروع الإيراني الذي يرمي إلى التغوّل والتوغّل أكثر في المنطقة لإعادة إحياء الإمبراطورية الفارسية، إذ نجد أن المشروع الإيراني متذبذب بين الانفتاح على بعض الدول والانكفاء عن أخرى، فيما الحديث جارٍ عن اتصالات إيرانية – سعودية إيجابية، حيث يبرز غياب وحدة العداوة تجاه إيران، والمعروف سابقًا بالعداء العربي- الفارسي.

- المشروع التركي للهيمنة من جديد على المنطقة العربية في مشرقها، وفي شمال أفريقيا، كما في شرق المتوسط، بعدما تلقّى هذا المشروع ضربات متعدّدة في أكثر من بلد وقضية منذ العام 2011. وكان واضحًا أن ما يسمّى بـ "الربيع العربي"، منح فرصة تاريخيّة لسلطة حزب العدالة والتنمية، الذي يرأسه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والتي عملت في سنوات ما بعد وصولها إلى الحكم في العام 2002 على انتهاج سياسة الدخول المرن والناعم إلى المنطقة العربية، وفق مبدأ "صفر مشكلات"، وحقّقت بها مكاسب مهمّة، على رأسها تغيير جزئيّ في صورة تركيا الحليفة لإسرائيل، والباحثة عن إعادة توثيق علاقاتها مع المنطقة التي خرجت منها بعد الحرب العالمية الأولى.

ممّا لا شكّ فيه أن المنطقة مقبلة على مرحلة تشهد الكثير من الديناميات والتقاطعات الإقليمية من جهة، والدولية من جهة أخرى. لكن بالرغم من كلّ ذلك، ومع الأسف الشديد، لم نشهد بعد نشأة كتلة عربية موحّدة ومتجانسة، بل لا تزال هناك مجموعة من الدول التي تعتقد أنها دخلت العصر البراغماتي، بيد أنّها لا تزال في حيرة استراتيجية كرّستها أكثر الحرب الأوكرانية، ليظهر أن هناك دولاً عربية لا تزال مع المعسكر الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، فيما هناك دول قليلة مع روسيا، إلا أنّ الأغلبية لا تزال على الهامش لأنها لم تقرّر بعد أين يقبع تحالفها الاستراتيجيّ في المقام الأول، ممّا يؤكّد أن معظم الدول العربية تعاني "متلازمة السراب" ريثما تتّضح لها في أيّ معسكر ستتموضع استراتيجيًا في ظلّ بروز مفهوم "التعددية القطبية" الجديد الذي بات يقود العالم ويُخيّره بين القوة "التعاونية" والقوة العقائدية" و"القوة الناعمة".

اقرأ في النهار Premium