يحيّر العالم هذا الصراع القديم – المستجد بن القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، وجمهورية الصين الشعبية، حول جزيرة يُفترض أنها قطعة من الصين، ولكنها ترفض الوحدة مع البلد الأم إلا بشروط، وتسعى بعض التيارات السياسية فيها الى إعلان الاستقلال، وإنهاء مستقبل الاتحاد التي ينشده الطرفان.
على طريق أوكرانيا
خطورة النزاع تذكّرنا بما انتهت إليه الحال في أوكرانيا، التي أدت طموحات انضمامها الى المعسكر الغربي، عبر بوابة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، الى إثارة مخاوف الجار الروسي، وشعوره المتزايد بالحصار الجغرافي والاقتصادي والسياسي والعسكري.
وتزايد وتيرة الزيارات الأخيرة للوفود الأميركية الرسمية التي دشنتها رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، والصفقات العسكرية المتطورة التي وافقت وشنطن على بيعها لتايبه، تشبه الى حد كبير ما تم مع اوكرانيا، وقاد الى الغزو الروسي لها، ما يفرض التساؤل عما يمكن أن تؤدي إليه هذه المواجهة بين قوى نووية، وأقوى اقتصاديات العالم، وتداعيات ذلك على أمن العالم ورخائه.
سياسة وتاريخ وعسكرية
وفي الجزء الأول من هذا البحث، في مقالة الأسبوع الماضي، طرحنا الأسئلة التي تدور في أذهان المراقبين حول أسباب الحشد المتبادل من البحرية الصينية والأميركية في محيط تايوان، وتصريح الرئيس بايدن بأن أميركا ستتدخل للدفاع عن تايوان إذا تعرضت للغزو. إضافة الى التحالف الانجلوساكسوني في المحيط الهادي، بقيادة الصين، وعضوية بريطانيا وأستراليا ونيوزلندا.
وتمهيداً للإجابة استعرضنا موجزاً جغرافياً، سياسياً، تاريخياً للخلاف حول الجزيرة، التي تناوبت على حكمها الصين في العهد الملكي، واليابان قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. وكيف لجأ إليها الجنرال تشيانغ كاي شيك وحكومته الوطنية، بعد هزيمته أمام قوات الحزب الشيوعي الذي يتزعمه ماو تسي تونغ في 1949، على أمل استعادة الوطن الأم يوماً ما. وكيف أن الأمم المتحدة منحت "الصين الوطنية" مقعداً في مجلس الأمن والأمم المتحدة، قبل أن تخسره لمصلحة "جمهورية الصين الشعبية" بعد اعتراف واشنطن والعواصم الغربية بها ممثلاً شرعياً وحيداً للأمة الصينية، في عام 1971.
العملاق الصغير
أهمية تايوان التي تعترف بسيادتها 13 دولة فقط وليس لها عضوية في أي منظمة أممية، تكمن في موقعها الاستراتيجي ضمن «سلسلة الجزر الأولى»، التي تبدأ شمال اليابان وتمتد جنوب غرب تايوان والفيليبين قبل أن تعرّج نحو فيتنام، وكلها دول حليفة للغرب وفيها قواعد أميركية.
كذلك تكمن في قوتها الصناعية، التي جعلت شركة واحدة فيها، «تايوان سيميكونداكتور»، تهيمن على أكثر من نصف السوق العالمية في صناعة الرقائق التي تشغل الأجهزة الإلكترونية من الهواتف الى الكمبيوتر وحتى السيارات والطائرات والمركبات الفضائية. واستحواذ الصين على الجزيرة يعني استكمال سيطرتها شبه الكاملة على هذه الصناعات الحيوية.
منافسة كونية
تقدم الصين السريع في سلّم القوة الاقتصادية من المراكز المتأخرة الى المركز الثاني، بعد الولايات المتحدة، وتوقع تربّعها على القمة قبل عام 2030، أو بعده بأعوام قليلة، وتنامي قوتها العسكرية التي وضعتها اليوم في المركز الثاني على حساب روسيا، واقترابها من المركز الأول الذي استأثرت به أميركا منذ الحرب العالمية الثانية، تسهّل علينا تفهم القلق العميق الذي يسود مراكز صناعة القرار في الغرب، وخاصة واشنطن، وحرصها على محاصرة التنين الصيني بالقواعد العسكرية والأساطيل البحرية، وعرقلة مسيرته التنموية، وتعطيل تقدمه التجاري ومشاريعه الكبرى واستثماراته الوطنية والدولية التريليونية، مثل مشاريع طريق الحرير والطوق البحري.
كذلك نفهم في ذات السياق إشغال العملاق الصيني بقضايا حقوق الإنسان والخلافات التجارية والعقوبات الاقتصادية... وتايوان.
فرصة الصين "الأوكرانية"
وفي المقابل، يبدو أن الصين حسبت أن الصراع في اوكرانيا وتبعاته من أزمات الطاقة والغذاء وسلاسل الإمدادات، تشغل الغرب وتدفعه الى العمل على تهدئة الجبهات الأخرى، وتأليف القوى العالمية ضد روسيا، والحرص على تعاون الصين في تنفيذ العقوبات الاقتصادية ضد موسكو. وبناءً على ذلك، فإن نافذة محدودة المساحة والوقت فُتحت لها لإنهاء مشكلة تايوان.
هذا التوجه يعني إما ترهيبها وترغيبها للاتحاد، على نفس المبدأ الذي تمت به استعادة "هونغ كونغ" من بريطانيا (بلد واحد بنظامين) بحيث تمنح الجزيرة نوعاً من الحكم الذاتي فتحتفظ بنظامها الديموقراطي وهيكلها الإداري والمالي، مع بعض التعديلات المتوافق عليها، وتتولى بكين شؤون العلاقات الخارجية والأمن والدفاع والميزانية العامة، أو أن يتم التوحيد قسراً، بالغزو البحري، والقصف الصاروخي، والإنزال الجوي، وفرض النظام السياسي والأمني والاقتصادي الذي تراه الصين مناسباً.
خيارات مرفوضة
هذه الخيارات يرفضها سكان الجزيرة وحكامها، بما يشبه الإجماع. فبعد عقود أنتجت أجيالاً نشأت على كراهية الشيوعية والحكم الشمولي، وتمتعت بحريات عامة وخاصة في نظام ديموقراطي رأسمالي، وحققت نجاحات اقتصادية أسطورية. وبعد أن رأوا كيف تراجعت بكين عن بعض وعودها والتزاماتها مع هونغ كونغ، وقمعت التظاهرات والاعتراضات على تدخلها وهيمنتها المباشرة، بات من شبه المستحيل أن يقبلوا بخوض تجربة مماثلة.
وهذا هو نفس موقف الجمهوريات السوفياتية السابقة، مثل جورجيا وأوكرانيا، التي يؤرقها كابوس العودة الى جحيم الحكم الروسي، بكل استبداده وتخلفه وقيوده. ونفس الأسباب التي دعتها الى طلب النجدة والتحالف مع الغرب، لعلها تتغطى بمظلته العسكرية وتنعم بوحدته الاقتصادية وتستمع بديموقراطيته وحرياته، كما هي حال الجمهوريات الأوروبية الشرقية، كبولندا وبلغاريا والمجر.
أسباب "التسخين"
وزاد الأمر احتقاناً وتعقيداً في تايوان نشوء حركة وطنية تطالب بإعلان استقلالها، وإقامة دولة سيادية جديدة، تتقدّم الى المجتمع الدولي بطلب الاعتراف وعضوية المنظمات الدولية. وبالتالي إنهاء مبدأ الوحدة مع الصين حاضراً أو مستقبلاً. وبذلك تكون قد أنهت حالة الغموض الاستراتيجي التي غلفت مواقف الحكومة التايوانية على مدى سبعة عقود، تجنباً لاستفزاز التنين الصيني المتربّص بها على الضفة المقابلة.
ولا تخلو حسابات جمهورية الصين الشعبية من الشخصنة. فالرئيس شي جين بينغ يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، الذي سيُعقد في بكين في 16 من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، حيث تميل التوقعات الى فوزه فيها بدورة ثالثة، لأول مرة في تاريخ بلاده. وقضية "تايوان" ومبدأ السيادة الوطنية ومواجهة تنمّر الغرب بتاريخه الاستعماري البغيض لبلادهم، قد يدفع الرئيس الى تصعيد مواقف بكين أمام التغوّل الأميركي في "الشؤون الداخلية"، والدعم الصريح للتوجهات الاستقلالية للجزيرة "المتمردة".
احتمالات المواجهة العسكرية
كل ماسبق لا أتوقع أن يقود الى مواجهة عسكرية، فضلاً عن نووية، بين أميركا والصين، فما حققته بكين خلال العقود الأخيرة من تطور صناعي ومالي وتجاري هائل سينهار في حال عزلها ديبلوماسياً، ومعاقبتها اقتصادياً، وخسارتها لأكبر أسواقها العالمية في الغرب، وانسحاب الاستثمارات الأجنبية، وعلى رأسها التايوانية، وتوقف التعاون التقني والعلمي الذي حقق لها المعجزات، ثم إن الصين، بكل ما وصلت إليه من تقدم ونموّ في القدرات العسكرية والنووية، ما زالت أضعف من أن تنتصر في مواجهة مع أميركا وحلفائها في الناتو، خاصة أنها تفتقر الى حلفاء، خاصة بعد تدهور أحوال الروس في أوكرانيا وتكشف عورات سلاحهم وجيوشهم، واستنزافهم.
وبناءً على ذلك، أتوقع أن تستمرّ حالة التدافع والمماحكة السياسية بين الأطراف المتنازعة، دون أن يتطور الأمر الى حرب أو قطيعة. والرهان هنا على عدم رغبة الجميع في تجاوز الخطوط الحمراء والوصول الى نهاية مدمّرة لا تخدم مصلحة أحد على وجه المعمورة.
@KBATARFI