غسان صليبي
اعتبر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي أنّ "سياسة إيران نجحت في كلّ من لبنان والعراق وسوريا"، ممّا أدّى إلى ما وصفه بـ"هزيمة الولايات المتحدة" في هذه الدول، مشدّداً على أنّ "الدور الإيراني في الدول الثلاث أسهم في إفشال المشروع الأميركي لضرب إيران عبرها".
وكان المرشد الإيراني شدد في خطابه السبت الماضي أمام "قوات التعبئة الشعبية" على أهمية "الخصائص الجغرافية والجيوسياسية" بالنسبة لسياسة بلاده، منوّهاً بأنّ "الثورة الإسلامية غيّرت قلوب الدول المجاورة لإيران، فلُغة قلوبنا وقلبهم واحدة وتوجهاتهم هي توجهاتنا نفسها"، ليخصّ بالذكر "سوريا والعراق ولبنان وليبيا والسودان والصومال"، متباهياً من هذا المنطلق بكون "الثورة الإٍسلامية انتقلت إلى شعوب المنطقة والدول المجاورة وأوجدت فيهم التغيير".
وأكّد خامنئي أنّ التفاوض مع الولايات المتحدة لن ينهي الاضطرابات التي تشهدها البلاد منذ شهرين، "لأنّ واشنطن ستُطالب دائماً بالمزيد".
ليس جديدا أن يقرّ مسؤولٌ إيراني بسيطرة بلاده على مجموعة من الدول العربية، الجديد هو في تولي خامنئي شخصياً التصريح بذلك بوضوح. ربما لأنّ نظامه يهتّز بفعل الانتفاضة الشعبية اليوم، أراد أن يوجّه رسالة "افتخار" بإنجازاته، إلى شعبه أولاً، وإلى الخارج ثانياً، الذي يتهمه بالتحريض على الانتفاضة. تصريحُ خامنئي يوضح الدور الايراني، الذي هو "إفشال المشروع الاميركي"، لكن ليس دفاعاً عن البلدان العربية، كما يدعي نصرالله مثلا، بل لأن المشروع الاميركي كان يتوخى "ضرب إيران عبرها". بمعنى آخر، خامنئي لا يعير أيّ اهتمام لكيانات هذه البلدان، التي يشكل التدخل فيها، بدون إرادتها طبعا، وسيلة للدفاع عن إيران في وجه الولايات المتحدة الأميركية. مع العلم ان المشروع الاميركي- الاسرائيلي لم يفشل، فهو تفتيت المنطقة مذهبياً، وهذا بالتحديد ما أدى اليه الدور الايراني الذي يمتدحه خامنئي.
لكنّ خامنئي يعود ويناقض نفسه، عندما يقول متباهياً، إن الثورة الإسلامية انتقلت الى البلدان المجاورة، أيّ أنّ وجوده في هذه البلدان كان بهدف تمدّد الثورة الإسلامية، وليس بدافع إفشال المشروع الأميركي. فهو يطمح إلى تغيير "قلوب الدول المجاورة"، أي أسلمتها بحسب عقيدة ولاية الفقيه، ويعتبر أنه نجح في ذلك.
وكان الرّئيس السوري بشار الأسد قال في حديثٍ أجراه قبل أيّام من تصريح خامنئي، مع مجموعة صحافيّين "بعيداً من الأضواء"، "كُشف النقاب" عنه: "دعَمنا حزب الله، وما زلنا ندعمه، وسنبقى ندعمه لأنّه حليف استراتيجي لنا"، معرباً عن "خشيةٍ على لبنان ومستقبله في ظلّ الواقع الحالي، لكونه خاصرة سوريا الأساسيّة، والاستقرار فيه مهم جداً لسوريا".
لم يُخفِ نظام الأسد يوماً تدخله في لبنان ولا دعمه لـ"حزب الله"، ليس حرصاً على الشعب اللبناني أو على لبنان، بل لأن هذا الأخير هو "خاصرة" سوريا. ولطالما كان نظام الأسد يتصرّف كأن لبنان ليس كياناً مستقلاً وتحكمه دولة.
لافت بالطبع تزامن التصريحين، الذي له وقعه الخاص في لبنان، على انتخاب رئيس للجمهورية، الذي يبدو معلّقاً في انتظار اتفاق إقليمي ودولي، لا تشير الدلائل إلى قرب حصوله، مع تشكيك خامنئي في جدوى التفاوض مع الولايات المتحدة، التي تطالب دائما "بالمزيد". وربما كان خامنئي يلمّح إلى تنازلات إيران الإخيرة، من خلال ترسيم الحدود مع إسرائيل في لبنان، وتسهيل انتخاب رئيس وتأليف حكومة في العراق. بدل مكافأتها على ذلك، ها هي الولايات المتحدة تطالب بالمزيد على أثر الانتفاضة الشعبية في ايران، وهي المتهمة بتأجيجها.
بعد يومين فقط من تصريحَي خامنئي والاسد تساءل البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظة الاحد من كنيسة مار مارون في روما: "ما هو المقصود؟ أمحو الدور الفاعل المسيحي عامة والماروني خاصة؟ لماذا رئيس مجلس النواب يُنتخب بجلسة واحدة وحال موعدها؟ ولماذا يتم تكليف رئيس الحكومة فور نهاية الاستشارات الملزمة؟ أهما أهم من رئيس الدولة؟"، محذراً من أنّ "لبنان لا يستطيع انتظار حلول الآخرين لينتخب رئيسه، خصوصاً أن ما يحصل في المنطقة لا يَعِد حتماً بإيجاد حلول للمشاكل القائمة بل يبقى الخطر قائماً بنشوء حروب جديدة من شأنها أن تعقّد الحل اللبناني".
البطريرك محق في الخوف على الدور المسيحي والماروني، بعد كل التطورات في المنطقة وفي لبنان. وقد فاقم خوفه على الأرجح تصريح خامنئي عن "تغيير القلوب"، وانتقال الثورة الإسلامية إلى شعوب المنطقة. لكنّ كلام الأسد وخامنئي فعلا أخطر من ذلك، إذ ألغيا في تصريحيهما الكيان اللبناني، فهل تدافع البطريركية عن الكيان المعرض للزوال، من خلال التمسك بالدور المسيحي-الماروني فحسب، مع ان معظم اللبنانيين حرصاء على الدور المسيحي وعلى ديمومة الكيان، وهم مستاؤون من الدور الإيراني؟ وإذا سمح الخصم، المرتبط بخامنئي والأسد، بالحفاظ على موقع الرئاسة للمسيحيين، في حال انحصر المطلب بهذا الهاجس، فهل يقبل البطريرك عندها برئيس مسيحي يشبه اميل لحود وميشال عون، كما يريد نصرالله؟ وهل إحجام البطريركية المارونية عن المطالبة بإسقاط لحود وعون في السابق، حمى الدور المسيحي وأنقذ الكيان من السقوط؟
الطائفة المارونية وعلى رأسها البطريركية، "صنعت" الكيان اللبناني بهدف حماية الدور المسيحي والماروني، بعد أن توسّعت الطائفة ديموغرافياً وجغرافياً وإقتصادياً، فهل بات الهم اليوم معكوساً، أيّ حماية الدور ولو في شبه كيان ووطن ودولة؟
وإذا كان هذا الموقف المستجد، هو نتيجة تقهقر الوجود والنفوذ المسيحي على المستويات كافة، وعدم الركون حالياً إلى الضمان الذي يؤمّنه الكيان والنظام المركزي القائم في الدستور، بعد هيمنة "حزب الله" على الدولة، أليس من الأفضل الإفصاح عن الموقف بوضوح، وهو تفضيل النظام اللامركزي الموسّع والعمل على اقراره، بدل الاكتفاء بإطلاق المواقف الغامضة، وكأن أصحابها يخجلون من طرح ما يتناسب مع مصلحتهم الحالية والاستراتيجية؟ هل الاعتدال في مرحلة تعرض الكيان للخطر، يشجع بدوره الخصم على الاعتدال؟ التجارب السابقة دلّت على العكس. فها هو المفتي الجعفري الممتاز، الشيخ أحمد قبلان، وكعادته بعد كل تصريح للبطريرك، يؤكد أن "حياد لبنان ممنوع، زمن لويس الرابع عشر انتهى، واللامركزية الواسعة خطر وجودي".
ما ينطبق في شأن ضرورة التصويب الاستراتيجي لمواقف البطريركية المارونية، ينطبق أيضاً على مواقف معظم "القوى التغييرية"، التي لا تزال تتعاطى مع الاستحقاق الرئاسي ومصير الكيان، بخفة لم يعد يحتملها المناصرون أنفسهم. وقد توسّعتُ في تحليل هذه المعضلة في كتابي الجديد الصادر عن "دار سائر المشرق"، بعنوان "متاهات التغيير في زمن الممانعة".
مع تكرار التصويت بالورقة البيضاء، "باخ" اللون الابيض وأصبح مائلاً للاصفرار الذي تعمق مع تصريحات خامنئي والاسد. ولأننا في موسم مونديال كرة القدم، استعير منه معنى الورقة الصفراء، وهي البطاقة الصفراء التي يرفعها الحكم في وجه لاعب لتحذيره بعد ارتكابه خطأ. وها هم نواب "الممانعة" يرفعون البطاقة الصفراء في وجه المجلس النيابي لتحذيره من محاولة تكرار ارتكابه خطأ مميتاً في حق "الممانعة"، الا وهو التزام قواعد الديموقراطية.