كلوفيس الشويفاتي
في يوم السبت 11 آذار من العام 1978 قادت فتاة فلسطينية تدعى دلال المغربي 12 فدائياً تابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية عملية "كمال عدوان" التي خطط لها خليل الوزير "أبو جهاد".
أبحرت دلال ورفاقها بسفينة نقل تجارية انطلاقاً من لبنان، ونزلوا منها ليستقلّوا زوارق مطاطية.
عرقلت الأمواج والرياح مسار الفدائيين لبعض الوقت، وابتلع البحر عنصرين منهم، لكن الباقين أكملوا حتى وصلوا إلى منطقة غير مأهولة على شاطىء طريق الساحل بين حيفا وتل أبيب.
كان أول أهداف الفدائيين اقتحام مقر الكنيست الإسرائيلي في تل أبيب، فهاجموا سيارة، وسيطروا على حافلة تضمّ ثلاثين راكباً أجبروا سائقها على التوجه نحو تل أبيب، ثمّ سيطروا في طريقهم على حافلة ركاب ثانية ونقلوا ركابها إلى الحافلة الأولى، واحتجزوا الجميع ليصل العدد إلى 68 رهينة. ورفعت دلال المغربي علم فلسطين داخل الحافلة بعدما قالت لركابها "إن فلسطين عربية وستظلّ كذلك"...
على مشارف تل أبيب، وبعد اجتياز الحافلة حاجزين إسرائيليين واستنفار إسرائيل كلّ أجهزتها وقواتها، وبمشاركة المروحيّات، نفّذت وحدة كوماندوس إسرائيلية بقيادة إيهودا باراك عملية لإيقاف الحافلة قبل دخولها إلى تل أبيب.
سدّت المدرّعات الإسرائيلية الطريق إمام الفدائيين الذين طلبوا التفاوض لإطلاق أسرى فلسطينيين. لكن باراك رفض مفاوضة الإرهابيين، ودعاهم لتسليم أنفسهم، فحصلت معركة أدّت إلى مقتل دلال المغربي ورفاقها العشرة (لبنانيان ويمنيّ وسبعة فلسطينيّين) كما قتل عدد من الرهائن (35) وبعض الجنود الإسرائيليين.
يومها، اعتبر رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن كما نتنياهو اليوم أن عملية كمال عدوان "أسوأ هجوم تتعرض له الدولة العبرية منذ إنشائها قبل 30 عاماً، وأن إسرائيل ستقطع اليد الشريرة التي شنّت عملية من أفظع الأعمال الشائنة والأكثر وحشية في التاريخ"...
هذه العملية كانت شبيهة تماماً بعملية طوفان الأقصى "ميني طوفان"، واعتبرت نتائجها ضربة موجعة للكيان الصهيوني ولنظامه الأمني والعسكري.
في الجانب الفلسطيني والعربي، اعتبرت العملية في منتهى الجرأة وانتصاراً لكل فصائل المقاومة، وهلّل لها كثيرون مؤكّدين أنها كشفت هشاشة الأمن الإسرائيلي وتضعضعه وإرباكه، خصوصاً أثناء مفاوضة الفدائيين لإطلاق الرهائن في الحافلة طوال وقت العمليّة التي استمرّت 30 ساعة.
انتقمت إسرائيل يومها من جنوب لبنان حيث انطلق الفدائيّون، ونفّذت في 6 نيسان اجتياحاً واسعاً لمدن وبلدات الجنوب فيما عرف بـ"عملية الليطاني"، التي استمرت سبعة أيام، وكانت أهدافها المعلنة، طرد مجموعات الفدائيين الفلسطينيين بعيداً عن الحدود مع إسرائيل، وإنشاء حزام أمنيّ بعمق عشرة كيلومترات على طول الحدود مع لبنان.
اعتبرت الحكومة الإسرائيلية يومها أن "عملية الليطاني" دمرت البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية (فتح) وباقي الفصائل في جنوب لبنان، فيما انتقد رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات "التخاذل العربي تجاه الاجتياح وتجاه ما يتعرض له الفلسطينيون واللبنانيون".
أصدر مجلس الأمن الدولي يومها القرار 425، وتشكّلت قوة الأمم المتحدة (يونيفل) التي وصلت إلى لبنان في 23 آذار 1978، واتخذت مقرّ قيادة لها في الناقورة على الحدود مع إسرائيل، وما زال هذا المقرّ حتى اليوم.
عملية طوفان الأقصى اليوم بحجمها ونوعيتها وتخطيطها شكّلت كما عملية "كمال عدوان" قبل 45 سنة صدمة كبيرة لإسرائيل، لكنها أيضاً دمرت المنطقة التي انطلقت منها، ولم تنته بعد، وستترك آثاراً ومآسي لا يمكن محوها لعشرات السنين...
أدت عملية الليطاني قبل 45 سنة إلى نتائج كارثية وتدميرية على لبنان وسكّان الجنوب، فقد قتل أكثر من 1200 شخص وجرح الآلاف، وكانت تكلفة الدمار هائلة، وقدّرت الحكومة اللبنانية عدد النازحين بـ285 ألف نازح (220 ألف لبنانيّ و65 ألف فلسطيني)، وشكّل النازحون من الجنوب ما يعرف اليوم بالضاحية الجنوبية لبيروت، التي أصبحت مقر قيادة "حزب الله" وفيها اكتظاظ شبيه بقطاع غزة.
منذ تأسيس دولة إسرائيل حتى اليوم لا الجيش الأقوى، ولا الترسانة العسكرية الكبرى، حققا الأمن والأمان للكيان اليهودي، ولم تلغِ وجود محاربيه من دلال المغربي ومن سبقها ومن بعدها حتى اليوم.
ولم تتمكن حركات المقاومة وفروعها وأذرعها على امتداداتها وتسمياتها من فتح حتى حماس وحزب الله وما بينهم من إزالة إسرائيل ورميها في البحر...
فمنذ العام 1978 وما سبقه لم تنته العمليات الفدائية أو المقاومتية، ولا توقفت الاجتياحات الإسرائيلية. وأثبتت الأحداث على مدى خمسين عاماً وأكثر أن المنطقة قد تبقى لخمسين سنة مقبلة من غير ازدهار أو انهيار أو سلام أو استقرار حتى إشعار آخر.
وحتى الوصول إلى السلام العادل والشامل، سيبقى هذا الشرق مصلوباً بكلّ دوله ومكوناته، وستبقى شعوبه المظلومة على موعد دائم مع النكبات والحروب التي تكمن حيناً وتنتفض حيناً آخر.