يروى أن كفيفاً كان لا يملّ من الشكوى والتظلّم من أسرته، ومن أنهم يستغلّون عماه ليحرموه من نصيبه العادل في أيّ شيء.
وذات مرّة ذبحوا شاة، وقبل أن يمدّوا أيديهم إليها، قدّموها كاملة له، لعله يشبع ويكفّ عن التشكّي، فابتسم راضياً وهو يتحسّسها بيديه، ثم اكفهرّ وجهه من جديد، وصاح: إن كان هذا ما قدّمتموه لي، فماذا قدّمتم لأنفسكم... بقرة أم بعيراً؟
أتذكّر هذه القصة كلما تكرّر مشهد لا يتبدّل عبر التاريخ الحديث. فمهما قدّمت السعودية من مساعدات ودعم لأشقائها، وهو واجب عليها، لا منّة فيه ولا أذى؛ ومهما تعفّفت عن المطالبة بالشكر والامتنان، فضلاً عن ردّ الجميل، فإن هناك من ينظر إلى ما في يدها لا إلى ما أمدّته به، أو إلى ما في يده أصلاً.
قال لي أخٌ عراقي: "ننتظر من السعودية الدعم الذي نراه يذهب إلى غيرنا ولا يصلنا"، فردّدت عليه: و"من أولى بتقديم الدعم لمن؟ العراق الذي رزقه الله نهرين عظيمين وأرضاً خصبة وموارد بشرية هائلة، ومنَّ عليه فوق هذا وذاك بالنفط والغاز والمعادن، أم نحن الذين اكتشفنا خيرات ما تحت الأرض بعده، وما زلنا نفتقر إلى مثيل ما لديه فوقها؟".
قلت مثله لأهلنا في سوريا ومصر والسودان واليمن. وكلّها بلاد سبقتنا إلى الخيرات أزماناً طويلة، ولم تفكّر في مشاركتنا بها. وما زال بعضها يذكّرنا بحداثة نعمتنا وعراقة نعمهم، وببسخاء أرضهم وصحراوية أرضنا. وفي نفس الوقت، يُطالبنا بمشاركته لقمتنا!
أقول لهم إن الرزق يضيع في يد مَن لا يحسن الحفاظ عليه، وتنميته، واستثماره. وقد عملت دول الخليج منذ اكتشاف النفط على مشروع طويل المدى لبناء الإنسان والأرض، وللتغلب على تحدّيات الطبيعة واستخدام التقنية الحديثة لتعويض ما ينقصها من النعم. والنتيجة اليوم تبدو واضحة في مواردها البشرية والاقتصادية المتقدّمة، وفي مشاريعها التنموية الكبرى، وخدماتها المتطوّرة التي تجاوزت الأساسيات إلى الكماليات. والأهم من ذلك ديمومة الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي.
وفي المقابل، تراجعت البلدان التي سبقتنا في مدارج التطور والمدنية بدعم من الدول المستعمرة، وبانفتاحها على الحضارات والأمم، وبما حباها الله به من النعم. ورأينا كيف تحوّلت عواصم كانت تنافس المدن الأوروبية في تطورها وبهائها ورقيّها إلى حالة من الحزن على ما فات، والتلهّف على ما وصلنا إليه. وبدلاً من الانتفاض على العوامل التي قادتها إلى ما هبطت إليه، تتوجّه أنظار نخبها، وبعض أهلها، إلى ما لدينا طلباً لمزيد من الدعم، ومزيداً من التعاطف، ومزيداً من التضحيات.
الشيء الوحيد الذي لا يطلبونه هو الخبرة والتجربة والنصيحة. فبالرغم ممّا حققناه من نجاح، ما زلنا بنظر بعضهم تلاميذ سابقين، وأهل بادية، ورعاة إبل. ولسان حالهم: "أعطني وأنا سيّدك!".
ومع تطورات الغزو الإسرائيلي لغزة، يتكرّر الموقف، وتتردّد الشعارات نفسها. فهناك من يسأل: "لماذا لا تبكي علينا الرياض؟"، ولا يسأل نفسه: "لماذا لم تبكِ أنت على الرياض عندما كانت تُقصف بالصواريخ الإيرانية؟ ولماذا وضعت يدك في أيدي القاصفين؟ ولماذا كنت تحتفل بكلّ مصيبة تُصيب أهلها من انخفاض أسعار النفط إلى الهجمات الإرهابية إلى الاعتداءات الصدّامية أو الخمينيّة؟".
ثم لا ترى أن الشعب السعودي عن بكرة أبيه عبّر عن مشاعره من لقمة عيشه، فقدّم أكثر من نصف مليار ريال لمساعدتكم؟ ولم تسأل أين دعم الأثرياء والمغتربين وتجار القضية؟ ولم ترصد أن حكومته أرسلت عشرات طائرات الشحن إضافة إلى البواخر المحمّلة بالأدوية والمعدّات وسيارات الأسعاف، وأن القيادة السعودية تفرّغت لطرق أبواب العواصم والمنظمات الدولية وتنظيم القمم والمشاركة في المؤتمرات واستثمار علاقاتها ونفوذها لحشد التأييد العالمي وتعديل المواقف واستصدار القرارات الأممية؟
وهناك من قلّب في الدفاتر والأسطوانات القديمة، وصاح يدعونا إلى التضحية بمصادر رزقنا لدعم قضيته. فالزعيم السياسي اللبناني وليد جنبلاط يطالب بإيقاف ضخّ النفط عقاباً لأميركا وحلفاء إسرائيل، وفي الوقت نفسه بزيادة الدعم المالي لأهل غزة. وكان ردّي عليه أن البيك في تاريخه لم يقدّم ليرة واحدة، وليس دولاراً، دعماً للقضية من حساباته الملياريّة، ولم يطلق رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل، أو يؤلّب طائفته في الجيش الإسرائيلي والجولان على العصيان المدني.
وليس مثله من يفوت عليه أن أميركا أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم، واستغنت عن نفط الخليج منذ العقد الماضي، وأن الخاسر الأكبر هو المنتج المقاطع، لأنه سيعطّل آباره وشبكاته ويخسر أسواقه، فيما سيزيد غيره إنتاجه إلى حدّه الأقصى، كما تفعل إيران والعراق والجزائر، وغيرها من أهل الشعارات والمناحات.
السعودية هي أكثر من خفّض إنتاجه حسب اتفاق "أوبك بلس"، الذي قادته والتزمت به لموازنة الأسواق الدولية وحماية مصالح المستهلك والمنتج، ثمّ زادت بخفض طوعيّ مليون برميل يومياً، حتى بعد العقوبات الغربية على النفط الروسي. وإن أيّ خفض أكبر فيه تعطيل لقدرتها على الإنفاق على مصالحها ومساعدة أشقائها، ولبنان وفلسطين ودول المواجهة أوّلها.
ثم يأتيك من يطالبك بالزحف على فلسطين لتحريرها، ويسأل "وين الملايين؟". وعندما تسأله لماذا لا تزحفون أنتم من لبنان وسوريا والضفة الغربية، وأنتم أقرب؟ ولماذا لا تقصف صواريخ الحوثي القاعدة العسكرية الإسرائيلية على الجزيرة الإريترية المقابلة لميناء الحديدة، أو يتوجّه الحشد الشعبي وأتباع مقتدى الصدر وعبد الملك الحوثي إلى الجولان عبر سوريا الحليفة؟ يردّون عليك بأن عبور الأردن والأراضي السعودية أسهل، وفتح مصر لحدودها أولى، ولسان حالهم: "إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ"!
أما الحراك السياسي الدولي الصاخب والمؤثر الذي تقوده السعودية لتصحيح مواقف القوى العظمى وعزل أميركا وإسرائيل؛ وأما المقاطعة الشعبية السعودية للمنتجات الأميركية والبريطانية والفرنسية والألمانية؛ وأما النشاط العالي النبرة، الشديد الحماسة على جميع وسائل الإعلام التقليدية والجديدة لتحريك الرأي العالمي، فكلّه، بنظرهم، مضيعة للوقت، وذرّ للرماد، ولا فائدة ترتجى منه.
وفي الوقت نفسه، يخصّص التصفيق للتصريحات النارية والشعارات السياسية التي توجّهها زعامات عربية وأعجمية للرأي العام الداخلي والعربي، وللألعاب النارية "المتوافق عليها" بين إسرائيل و"حزب الله"، وللتغطيات الإعلامية المتشنّجة التي لا تصل إلى بصر وسمع المجتمع الدولي، ولا تخدم القضيّة لو وصلته.
أعود إلى قصة الأعمى فأقول إن السعودي سيبقى مخلصاً لمبادئه وقيمه وإرثه العربي الإسلامي العريق، ولن يتخلّى عن أهله مهما تفلّتت ألسنة بعضهم أو ناله أذاهم، ولسان حاله كأسرة الكفيف: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا".
وكلّي ثقة بأن بيت العرب "الرياض" سيبقى على عهده في دعم القضايا العادلة، والدفاع عن المستضعفين في الأرض، وتبنّي مطالبهم والمطالبة بحقوقهم، حتى لو تخلّى عنهم أقرب الأقربين، وتفرّغوا لبيع المواقف، وتحصيل الفوائد، والاستشراف على الجماهير المغيّبة.
وإن بلاد الحرمين الشريفين لن تتخلّى يوماً عن المسجد الأقصى، فهي قضية كلّ عربي ومسلم، وليست حكراً على أهلنا في فلسطين.
قلقي فقط أن بعضنا سيُصيبه السأم، وتأخذه عزة النفس، ويقرّر أن ينسحب وشعاره "اتّق شرّ من أحسنت إليه"، وحكمته "إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّد". وإن مواصلة "بعض" النخب السياسية والثقافية وجمهورها في "بعض" البلدان الشقيقة أسلوب المساومة والاستفزاز، الجحود والنكران، ستنعكس سلباً عليهم، وتصرف الناس عن قضاياهم، وتقلّص من مساحة دعمهم. ففي البدء والنهاية نحن وأنتم بشر… وليس فينا ملاك!
@kbatarfi