النهار

عالمُنا يَتَّجه نحو الانهيار... وكُلُّنا مَعنيُّون!
المصدر: "النهار"
عالمُنا يَتَّجه نحو الانهيار... وكُلُّنا مَعنيُّون!
الأب سامر نعمان.
A+   A-

الأب سامر نعمان - كندا

قد يُثير عنوانُ هذا المقال الاستغرابَ والدهشة، وقد يظنُّ البعضُ أنّه استُخدِمَ «مِصيَدَةً» لاجتذاب القرّاء، لكنّه، في الواقع، مقصودٌ في معناه؛ وأمّا تَصَدُّرُه المقالَ الحالي فجاء حصيلةَ تأمُّلٍ في ما يحصل في عالمنا اليوم، وتفكُّرٍ في ما سيؤول إليه حالُه مستقبلاً، وعلى أكثر من صعيد. فهل هناك حقًّا أخطارٌ وجوديّةٌ تُهدّد عالَمَنا، وقد تقوده إلى الانهيار؟ وما هي هذه الأخطار، وكيف يمكن تلمُّسُها؟ وكيف أسهم الإنسان، ولمـّا يزل، في ما وصلَت إليه أوضاعُه اليوم؟

نستعرض في الآتي بعضاً من الأخطار التي تُنذِرُ باتّجاه عالمنا نحو الانهيار، وهي تتفرّعُ عن خمسة موضوعات، جميعُها في تَصاعُدٍ مُستمرّ. وإذ يُمثّل اثنان من هذه الموضوعات تهديداً مباشراً لكل حياةٍ على الأرض، كالتغيُّر المناخيّ والتوتُّرات في البُلدان والحروب في ما بينها، يُمثّلُ اثنان آخران تهديداً لكلِّ إنسانٍ، على نحوٍ مُباشرٍ وإنْ ببطءٍ، كالتطوّر التكنولوجيّ والمشكلات الأخلاقيّة، ويُمثّلُ الأخير وعيداً لكل شخصٍ في المدى المتوسّط والبعيد، عَنينا به المؤامرات على البشريّة. وإذ سنتوسّع في الموضوعات الأربعة الأولى، سنُلمح إلى الموضوع الخامس في خاتمة هذا المقال.

ويجدر التنويه إلى أنّ عَرضَنا لما يُهدِّدُ وسَيُهدِّدُ سلامةَ عالمنا والأحياءَ على سطحه ولا سيّما البشر، يأتي من باب توصيف الواقع بعد تحليله والتمعُّن فيه، واستشراف نتائجه المستقبليّة. وإذ نسعى في الآتي للإضاءة على الداء على نحوٍ منطقيٍّ ومُحايد، فإنّنا لا ندّعي امتلاك الدواء. وعليه، فالغايةُ من هذه الصفحات تَبيانُ ما آلت إليه أوضاع عالمنا، وما قد يكون عليه مُستقبلُه على ضوء ما يتهدّدُه اليوم، وذلك حثًّا على إيجاد الحلول المناسبة قبل فوات الأوان.

أوّلاً: التغيُّر المناخيُّ وآثاره الكارثيّة

منذ نحو مئة عام، أنذرَ عددٌ من العلماء بظاهرةٍ بيئيّةٍ تتمثّلُ بارتفاع درجة حرارة الكُرة الأرضيّة ارتفاعًا شامِلًا. ومنذ بضع سنوات، أكّد هؤلاء أنّ حرارة الأرض قد ارتفعت فعليًّا بنسبةٍ تجاوَزَت درجةً مئويّةً واحدة، الأمرُ الذي بدأ يُهدّد، وسيُهدّد مستقبلاً بالتأكّيد، عشرات ملايين الأشخاص بأخطارٍ مُتنوِّعة، رُحنا نشهد اتّساعَ بعضها في الآونة الأخيرة، مِن مِثل ذوبان الكُتل الجليديّة في القُطبَين الشماليّ والجنوبيّ الذي سيُؤدّي إلى ارتفاع مستوى مياه البحار والمحيطات وإمكان غَرَق بعض المدن الساحليّة، والفيضانات والأعاصير، وتناقص مياه الشُّرب والجفاف، وتضاؤل المحاصيل الزراعيّة والحرائق، والمجاعات وانتشار الأوبئة.

ويعودُ سببُ ارتفاع حرارة الأرض إلى أنّ الإنسان، في سبيل توليد الطاقة، أحرقَ، ولـمّا يزل، الوقودَ الأُحفوريَّ المتمثّلَ في النفط والفحم الحجريّ والغاز الطبيعيّ وغيرها، فبثَّ بالفعل عينِه غازَ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوِّيّ بنِسبٍ عالية. وإذ يحمل هذا الغاز خاصِّيَّةَ حَبْسِ حرارة الإشعاعات تحت الحمراء، تسبَّبَ «بالاحتباس الحراريّ» وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضيّة، ومِن ثمّ «بالتغيُّر المناخيّ».

هذا، وتمكننا الإشارةُ إلى بعض مظاهر «التغيُّر المناخيّ» في العامَين، المنصرم والحاليّ، وآثارها الكارثيّة على البشريّة. فقد أُبلِغَ في العام 2022، بحسب قاعدة البيانات الدوليّة للكوارث "EM-DAT"، عن نحو 387 كارثةٍ بيئيّة، تسبَّبت بوفاة أكثر من 30 مليون شخص، وتضرَّرَ منها نحو 185 مليون شخص. ومع أنّ الفيضانات قد استأثرت بالنسبة الأكبر لعدد الكوارث في العام المنصرم، إلاّ أنّ درجات الحرارة المرتفعة كانت المسبِّبَ الأكبر للوفيات، تليها الفيضانات، ثمَّ الجفاف، فالزلازل والعواصف والانزلاقات الأرضيّة.

وبالعودة إلى عامنا الحاضر، يمكن استعراض بعض ظواهر «التغيُّر المناخيّ»، حتّى اليوم، على النحو الآتي:

أ‌. فيضاناتٌ وأعاصير: ضربَ البرازيلَ إعصارٌ مَداريٌّ تسبّب بهطول أمطارٍ غزيرةٍ وهبوب رياحٍ قويّةٍ مع عواصف شديدة؛ وقد أسفر عن وفاة 46 شخصًا وفقدان ما يوازي هذا العدد وإصابة 924 آخرين. وفي بنغلاديش، جرفت فيضاناتٌ مئاتَ المنازل، وأغرقت 5000 هكتار من الحقول الزراعيّة ومزارع الأسماك. وأمّا في فيتنام، فقد أدّت الفيضانات والانهيارات الأرضيّة الناجمة عن الأمطار الغزيرة في المنطقة الجبليّة الشماليّة إلى مصرع 12 شخصًا وإصابة خمسةٍ وفقدان ثلاثةٍ آخرين، كما تضرّر ما لا يقلّ عن 104 منازل.

ب‌. حرارةٌ مرتفعةٌ وجفافٌ في المياه: شَهِدَ هذا العام ارتفاعًا غير مسبوقٍ في درجات الحرارة، فقد اجتاحَت موجات الحرّ إسبانيا وإيطاليا والولايات المتّحدة الأميركيّة وكندا والصين واليابان... وعُدَّ شهرُ حزيران الشهرَ «الأكثرَ دفئًا» على الأرض، وبرزت دول الخليج العربي من بين أكثر الدول التي عانت من ارتفاع درجات الحرارة. بالإضافة إلى ذلك، فقد واجهت سريلانكا جفافًا حرم 150 ألف شخصٍ من الحصول على مياهٍ صالحةٍ للشرب، وقد أثّر هذا الوضع سلبًا على حياة ما يقرب من 50 ألف مزارع.

ت‌. حرائق متنقّلة: في العام الحاضر، أصابَت الحرائقُ اليونان، فأتَت على مساحةٍ من الغابات أكبر من مدينة نيويورك الأميركيّة، وأودت بحياة 20 شخصًا. كما أصابَت إسبانيا، فأتت على نحو 10 آلاف هكتارٍ من الأراضي، وتسبّبت بإجلاء أكثر من 12 ألف شخصٍ عن منازلهم. وشهدت كندا حرائق قضت على مساحة 13.4 مليون هكتارٍ من الغابات، وأجبرت أكثر من 167 ألف شخصٍ على مغادرة منازلهم. وأجهزت حرائق تركيا على نحو 2650 هكتارًا من الغابات و1430 هكتارًا من الأراضي الزراعيّة. وأمّا في الولايات المتّحدة، فقد عانت ولاية هاواي "Hawaii" من مأساةٍ كبيرة، إذ قضت الحرائق على مدينة لاهينا "Lahaina"، ولقي ما لا يقلُّ عن 115 شخصًا حتفَهم في الكارثة.

وعلى الرغم من تَنَبُّه عددٍ من الدول لأمر التغيُّر المناخيّ منذ سنوات، وتداعيها لوضع حدٍّ لنتائجه الخَطِرَة، ولا سيّما في مدينة كيوتو اليابانيّة في عام 1997، حيثُ فُرِضَت قيودٌ قانونيّةٌ مُلزمةٌ لتخفيض انبعاث «الغازات الدفيئة» بنسبة خمسة بالمئة أقلّ من المستويات المحدّدة في عام 1990 بحلول الفترة ما بين عامي 2008 و2012؛ نقول، على الرغم من كلِّ ذلك، فإنّ عددًا غيرَ قليلٍ من الدول، كالصين وأستراليا وغيرهما، لم يُوقِّع على هذه الاتفاقيّة؛ وإنّ بعضَ الدول لم يُنفِّذها مع أنَّه التزمَ بها، أو انسحبَ من تنفيذها كالولايات المتّحدة الأميركيّة.

في المحصّلة، منذ سنواتٍ والإنسان يعتدي على الطبيعة في نظامها المتكامل وتوازنها الدقيق، بأكثر من شكلٍ وطريقة، بإدراكٍ مُسبقٍ لمخاطر اعتدائه أو من دون هذا الإدراك. وأمّا الطبيعة فتُبدي انزعاجها كلَّ يوم، في محاولةٍ لتنبيه الإنسان إلى أنّ نظامَها مُتكاملٌ، ودون العبثِ به نتائج ُكارثيّةٌ تُصيبُ كلَّ كائنٍ حيٍّ على سطح الأرض، وسعيًا منها لإفهامه أيضًا أنّ توازنها دقيقٌ، ولا يُمكن التلاعبُ به من دون تعريض الإنسان لخطر الإبادة الجماعيّة!

فمتى يضعُ الإنسان حدًّا لتسلُّطه على الطبيعة؟ أفَلَم يُدركُ بَعدُ أنّ كلَّ تباطؤٍ في العودة إلى احترام قوانينها، قد يُغيظُها أكثر فأكثر ويدفَعُها إلى الانتقام، وقد لا يسلَمُ حيٌّ حينَهَا من حَنَقِها وشدَّة غضبها؟! إنّ المسألة البيئيّة أضحت معضلةً حقيقيّةً ولا سيّما بعد إعلان عددٍ من العلماء أنّ الضرر البيئيّ لا يمكن ترميمُه تمامًا، وأنّ آثاره الحاليّة ستستمرُّ طويلًا. فما بالُنا أنّ دولاً عديدةً لم تقتنع بَعدُ بالتحرُّك حمايةً للكرة الأرضيّة ومَن عليها من كائنات، وأنّ أغلبيّةً من البشر لم تُدرك بَعدُ أنّ اهتمامَها بالبيئة يؤول إلى محافظتها على وجودها؟!

ثانيًا: المشكلات الأخلاقيّة وعواقبها

فضلًا عن التغيُّر المناخيّ وانعكاساته على عالمنا أعاصيرَ وفيضاناتٍ وجَفافًا وحرائقَ وخسائرَ اقتصاديّةً ووَفَياتٍ بشريّة، والآتي أعظم، فإنّ مسائل وموضوعاتٍ أخلاقيّة، أفرزَ بعضَها التطوّرُ في مجال التقنيّات الطبّيّة، باتت تفرضُ نفسها في هذه الأيّام، مع مُستَتْبعاتها، أكثر فأكثر؛ وانقسم البشر في تقويمها، أي في تصنيفها صالحةً أم سيّئةً من الوُجهة الأخلاقيّة. ونذكر هنا الإخصاب الاصطناعيّ ووسائل منع الحمل والإجهاض، المبكِّر منه أو المتأخِّر، والاستنساخ البشريّ والمثليّة الجنسيّة، والقتل الرحيم والعلاج العنيد، وما سوى ذلك.

هذا، ويمكن التوقّف ههنا عند عَيّنةٍ صغيرةٍ مِنَ المسائل الأخلاقيّة، المطروح منها قديمًا والمستَجَدّ، والإشارة إلى عواقبها التي قد تُصيب الفرد أو المجتمع بِرُمَّته. وتجدر الإشارة إلى أنّنا، في عرضنا الآتي، لا نسعى لإطلاق الأحكام على الأشخاص في توجُّهاتهم وخياراتهم، بل إلى تحليل بعض السلوكيّات من الوجهة الأخلاقيّة سعيًا لتقويمها واستشراف مخاطرها، على نحوٍ منطقيٍّ ومُحايد.

أ‌. المثليّة الجنسيّة وتَداعياتُها: ظهرت المثليّة الجنسيّة، وهي الانجذاب الجنسيّ بين شخصَين من الجنس نفسِه، منذ سنين طويلة، لكنّها أضحت اليوم أكثرَ عَلانيةً بعدما كانت مُحاطةً بسِرّيّةٍ كبيرة. وبحسب الدراسات المعاصرة، فإنّ أسباب الميلِ المثليِّ الجنسِ ثلاثةٌ أساسيّةٌ: فقد تكون فطريّة، تعودُ إلى خللٍ في كيمياء الدماغ؛ وقد تكون تربويّة، ترجع إلى نوع التربية التي يتلقّاها الطفل؛ وقد تكون جنسيّة، وتأتي من تَعرُّض الطفل إلى تحرُّشٍ أو اعتداءٍ جنسيّ.

وبغضّ النظر عن مسؤوليّة الفرد في ميله المثليّ، ومسؤوليّته في «تصحيحه»، يجدر التوقّف عند بعض نتائج انتشار المثليّة الجنسيّة. فكيف تستمرُّ البشريّة إذا ما تكاثرت «الزواجات المثليّة» في العالَم؟ وكيف يُسمح «للأزواج المثليّين» بالتبنّي مع أنّ التربية السليمة تفترض، بحسب علم النفس، أن يتماهى الطفل مع أبٍ ذكرٍ وأمٍّ أُنثى؟! والأخطر من ذلك أنّ تربيةً جنسيّةً حديثةً بدأت تدخلُ مدارس أطفالنا، يتعلّمون بموجبها أنّ جنسهَم غيرُ مُحدّدٍ الآن، ويمكنهم اختياره في المستقبل! ألا يُمثّل هذا الأمر إسهامًا مقصودًا في تشتيت أطفالنا خلال تعرُّفهم على هويّتهم الجنسيّة، وترويجًا غير مباشرٍ لإمكان تغيير جنسهم لاحقًا؟!

ومع إيماننا بحرّيّةِ الإنسان، واحترامنا خيارَه في أن يعيش مع مَن يُماثله جنسيًّا، نرى أنّ كلَّ استسهالٍ لحكومات الدول والمنظّمات المدنيّة والشعوب، في ترويج المثليّة الجنسيّة وتشجيعها والمناداة بها، يُمثّلُ في المستقبل المتوسّط والبعيد خطورةً حقيقيّة، أكان ذلك لجهة تشويه صورة العائلة الطبيعيّة بيولوجيًّا، والحدّ من الإنجاب الطبيعيّ، أو لجهة إحداث خَللٍ في نفسيّة الأجيال القادمة وميولها، أو لجهة تشتيتها في إطار التعرُّف على هويّتها الجنسيّة، وحثّها على نحوٍ لا مُباشر على تغيير جنسها، ولأبسط الأسباب.

ب‌. تغيير الجنس واختيار النوع: بالاستناد إلى نظريّةٍ مستحدَثَةٍ مَفادُها أنّ الجنس البيولوجيّ لأيّ فردٍ قد لا يكون الجنسَ المفضّلَ لديه، سهّلت بعضُ الدول للإنسان أن يُغيّرَ جنسَه بإجراء عمليّاتٍ جراحيّةٍ «تحوُّله» من ذكرٍ إلى أُنثى أو بالعكس. ومنذ ذلك الحين، بدأنا نشهد تسارُعًا غير مسبوقٍ في تغيير الجنس، ولا سيّما عند الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة، ولأسبابٍ غير جوهريّةٍ أحيانًا، وانطلاقًا من «عدوى الموضة» أحيانًا كثيرة. ومن النافل ذِكرُ ما يترتَّبُ عن هذا «التحوُّل» من صعوباتٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ تُصيبُ المتحوِّلَ نفسَه، وقد تمتدُّ لسنوات، وغالبًا ما تنتهي بالانتحار.

فلماذا لا نُساعد الإنسان، ذكرًا كان أم أنثى، على تقبُّل جنسه البيولوجيّ والتصالح معه، قبل أن يلجأ إلى عمليّات تغيير جنسه؟ ولماذا نسمح للأطفال بتغيير جنسهم مع أنّ خياراتهم في هذه الأعمار غير دقيقةٍ وغير نهائيّة؟ ألا يُفضّل أن نسمح لهم بذلك عندما يبلغون، كما هو الحال بالنسبة إلى التصويت مثلًا، ولا سيّما أنّ عمليّاتِ تغيير الجنس لا يمكن التراجع عنها لاحقًا؟! وخير مثالٍ على ذلك أنّ فتاةً في إحدى مقاطعات كندا، رفعت دعوى قضائيّةً على مُدرّستِها التي أقنعتها بتغيير جنسها؛ والفتاةُ اليوم، وبعدما تحوَّلَت جنسيًّا، نادمةٌ على ما أقدَمَت عليه!

بالإضافة إلى أنّ التوجُّهات المعاصرة تُشجّع الإنسان على تغيير جنسه، فإنّها تُعطيه الحقَّ في تغيير نوعه الإنسانيّ أيضًا؛ فقد يُفضّل إنسانُ اليوم أن يكون كلبًا أو قطَّةً أو أيَّ حيوانٍ آخر. وقد سمحت المدارس لتلامذتها مُؤخّرًا باختيار نوعهم، من حيوانٍ أو جماد، بحيث يأتي التلميذ إلى المدرسة، وقد انتقى أن يكون كلبًا لهذا اليوم أو حجرًا، وعلى الجميع احترام رغبته، وصولًا إلى التعاطي معه على أساس خياره الجديد. وقد بدأت بعض الشركات أيضًا باستئجار أمكنةٍ يقضي فيها موظفوها إجازتهم معًا، بحيث يختارون أن يعيشوا قُططًا أو كلابًا أو أيَّ حيوانٍ آخر يختارونه! وقد نشرَ تقريرٌ صدرَ مُؤخّرًا أنّ عددًا يتصاعدُ من البشر قرّر أن يكون «كلبًا بشريًّا» بحيث يبيع نفسَه لأشخاصٍ آخرين، مقابل أن يهتمَّ هؤلاء به، كما يهتمّون بكلابهم المنزليّة!

وعليه، ألا يجدرُ بنا أن نُساعد الإنسان على أن يُميّزَ قيمته الإنسانيّة بدلًا من أن نُشجّعه على أن يختار حيوانًا ليعيشَ على شاكلته؟! أليس من الأفضل للإنسان أن يسعى لفهم اختلافه عن الحيوان، وللعيش بحسب ما أُعطيَ من قُدُراتٍ فكريّةٍ ولا سيّما في التفكير والتحليل والاستنتاج؟! وماذا سيكون عليه المجتمع، إذا ما استيقظنا كلّ يومٍ لنجد بعض البشر مُتحوّلين إلى حيواناتٍ بشريّة؟ وكيف يمكن تصنيف هذه النزعات البشريّة في علم النفس؟!

ت‌. تشريع قتل الأجنّة: الإجهاض، أو قتل الجنين وهو بعدُ في رَحم أمّه، أقدمت عليه النساء منذ القِدَم باستعمال وسائل كثيرة. وإذا كانت السبل إلى الإجهاض بدائيةً حينها، فقد أصبحت، مع التطوّر الطّبّيّ، أسهل وأبسط؛ كما أضحت، مع تشريعها القانونيّ في بعض الدول، في مُتناول جميع النساء، إذ تتوافر الآن، بالإضافة إلى الحبوب التي تمنع الحمْلَ في حال إقامة علاقة جنسيّة، حبوبٌ تُجهضُ الحمْل في بدايته...

وفي هذا الإطار نسأل، هل للمرأة الحقّ في قتل جنينها لمجرَّد أنّه تكوّنَ في أحشائها؟ نَتَفَهَّمُ تمامًا أن تختارَ المرأة عدم الحمل والإنجاب، ولكن هل لها الحقّ في إيقاف الحياة في أحشائها بعد بزوغها؟ وكيف يحقُّ للمرأة الحامِل أن تُجهضَ جنينها قبل ولادته بساعاتٍ من دون أن تتحمَّلَ أي عواقبَ جزائيّة، وإن هي أقدمت على إنهاء حياة مولودها بعد وضعه بساعاتٍ تُجرّمُ بعقوبة القتل؟ ولماذا يحصل الجنين على حقوقه ابتداءً من ولادته وليس قبلها، مع أنّه إنسانٌ «بالقوّة»، وهو في أحشاء أُمّه، بحسب التعبير الفلسفيّ؟

وخُلاصة القول، لقد لجأ الإنسان في الماضي، وفي إطار تقويمه الأفعال من الوجهة الأخلاقيّة، إلى مرجعيَّته الدينيّة. وقد لجأ، في مرحلةٍ لاحقة، إلى مبادئه الإنسانيّة بعامّة، والأخلاقيّة تحديدًا، وجُلُّها دينيٌّ في الأساس. لكنّ مرجعيّته اليوم تحوّلت تحوُّلًا جذريًّا وكاملًا، فأضحت «الحريّة الشخصيّة» التي لا تخضعُ لضوابط ولا تستلهمُ أيَّ معيار. ومع تأكيدنا على أهمّيّة أن تقوم أفعالُ الإنسان على اختيارٍ حُرٍّ، فإنّ حرّيّة اختيار الفعل لا تُعطي الفعلَ ذاتَه مشروعيّته الأخلاقيّة. وبمعنًى آخر، إذا ما قرّر الإنسانُ بحُرّيّته أن يقوم بفعلٍ ما، فإنّ هذا الفعل لا يُصبح جيّدًا لأنّه ناتج عن «فعلٍ حُرّ»، بل يُصبحُ جيّدًا بالنظر إلى المعايير الأخلاقيّة التي تُوجّهه.

ومع ذلك، فقد انتقلنا اليوم من مرجعيّة «الحرّيّة الشخصيّة» في اختيار الأفعال إلى مرجعيّة «الرغبات المزاجيّة». فبات العديد من البشر يرتكز إلى رغباته الفرديّة في اختيار ما يُريد، وإلى مشاعره الآنيّة في اختيار توجّهاته اليوميّة. لكنّ الحريّة من دون ضوابط قد تُؤذي صاحبها ومَن حوله، والرغبات إنْ لم تُوجّه قد تُودي بأصحابها إلى الهلاك. في الواقع، يتحمَّلُ الإنسان مسؤوليّته في اختيار أفعاله، بالنظر إلى وَعيه وحُريّته وإرادته، ولا سيّما لجهة أن تكون متناسبةً مع كرامته الإنسانيّة وخيره الأسمى وخير مجتمعه بأسره.

ثالثًا: التطوّر التكنولوجيّ وأضراره

قَدَّمَ التطوّر التكنولوجيّ منذ سنوات، ولا سيّما في المجال الطبّيّ والمعلوماتيّ والتواصُليّ والذكاء الاصطناعيّ وسواها، فوائدَ عديدةً في مختلف مجالات الحياة البشريّة. فقد أسهم في علاج بعض الأمراض، ومنها ما كان مُستعصيًا على الشفاء؛ ومكَّن الإنسان من الوصول إلى المعلومات في فترةٍ قياسيّة؛ وسهّل التواصل بين البشر على مساحة الكرة الأرضيّة، وصولًا إلى الكثير من الفوائد الأُخرى.

ومع ذلك، فقد كانت للتطوّر التكنولوجيّ أضرارٌ أصابَت مختلف جوانب حياة الإنسان؛ فقد عقّدَ التطوُّرُ حياة هذا الأخير، ووضعه في عُزلةٍ ووَحدةٍ قاتلة، وأثّر في صحّتَيه، الجسديّة والعقليّة، تأثيرًا سلبيًا. ويمكننا التوقّف عند بعض المشكلات التي طرحها التطوّر التكنولوجيّ الحديث، ولا سيّما لجهة بثِّ المعلومات المغلوطة عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتفاقُم العزلة التي أصابت البشر، وتراجُع التعامل الإنسانيّ مع الإنسان.

أ‌. المعلومات التواصُليّة ومُشكلاتها: سهّل التطوُّر التكنولوجيّ التواصل السريع والمباشر بين البشر، ومَكَّنَ الإنسان من الوصول في سرعةٍ كبيرةٍ إلى كلّ المعلومات التي يبحث عنها، وتبادلها مع الآخرين. فضلاً عن ذلك، فقد دخلَت وسائل التواصل الاجتماعيّ عالَم الإعلام والإعلان من بابه العريض، وأحدَثَت ثورةً حقيقيّة، إذ لم تُسهم في نشر «الخبر» أو «المعلومة» من كلّ أنحاء العالَم وإليه فَحَسْب، بل تعدّت ذلك إلى نشرهما لأعدادٍ كبيرةٍ من البشر في لحظاتٍ معدودة.

وإنّ هذه الوسائل التي سمحت لكلّ إنسانٍ أن يكونَ صِحَافيًّا، إذ بات قادرًا على تصوير أيّ حدثٍ مِن أيّ مكانٍ في العالَم، والكتابة عنه، وبثّ الصور والمشاهد والنصوص لتصل كلَّ إنسانٍ في سرعةٍ قياسيّة، أتاحَت له الفُرصة أيضًا أن يَبُثُّ أيّ معلومةٍ يُريد ترويجها، أكانت صحيحةً أم شبه صحيحةٍ أم خاطئةً تمامًا؛ وبِتنا نتكلّم على «معلوماتٍ كاذبة» أو «مُلفّقة» أو «مُختَلَقة» لمصالح وغايات، وما أكثرها.

وعليه، فإنّ إحدى المشكلات الأساسيّة التي يطرحها التطوُّر التكنولوجيّ في وسائل تواصله الاجتماعيّ هي موثوقيّة المعلومات المتَناقَلة، ولا سيّما بعدما أضحت هذه الوسائل مِنبَرًا حُرًّا لكلّ إنسانٍ ينشُرُ أيَّ موضوع، من دون الحاجة إلى اختصاصٍ أكاديميٍّ أو دقَّةٍ علميّة. فضلًا عن ذلك، فإنّ حالةً من الإرباك نشأت عند الإنسان، فغزارة المعلومات التي باتَت تصلُه يوميًّا عِبرَ وسائل التواصل الاجتماعيّ جعلته عاجزًا عن متابعتها، كما أنّ تبايُن هذه المعلومات أحيانًا، واختلاقها وتلفيقها أحيانًا أخرى، ضلّلته، ولا سيّما أنّه لا يملك الوقت ولا الوسائل المناسبة للتثبُّت من صِحّة ما يَرِدُه حولَها وفي شأنها. ناهيكم عن أنّ الكثير من المعلومات والصور والمشاهد التي لا تُناسب الأطفال أصبحت في متناولهم، وتُسهم في تشتيتهم وضياعهم في أحيانٍ كثيرة.

ب‌. تفاقُم العُزلة بين البشر: إنّ سهولة حصول الإنسان على حاجاته افتراضيًّا، أي من دون مساعدةٍ بشريّة، جعلته يتوجّه اليوم، على نحوٍ واعٍ أحيانًا قليلةً وغيرِ واعٍ أحيانًا كثيرة، إلى الاستغناء عن التواصل البشريّ برمّته، وشجّعته على العيش في عالمه الخاصّ مُبتعدًا عن أُسرته ومحيطه الاجتماعيّ. وإنْ هو التقى بأشخاصٍ أو كان مَدعوًّا إلى عشاء، تراه مُنشغلًا عمّن هُم معه بالتواصل مع آخرين افتراضيًّا.

في الواقع، مع التطوُّر التكنولوجيّ بات الإنسان قادرًا على التعلُّم بلا مُدرّسٍ أو أُستاذ؛ وعلى إنهاء معاملاته الرسميّة من دون العبور بموظّفين؛ وأمّا التسلية مع بعض الأشخاص فباتت ممكنةً على نحوٍ افتراضيٍّ، ولا حاجةَ للمرء إلى التعرُّف على هؤلاء مُسبقًا؛ والعمل يمكن القيام به من المنزل من دون التواصل حضوريًّا مع أحد؛ وحتّى الحاجات العاطفيّة والجنسيّة أصبح بالإمكان أن تُلبَّى على نحوٍ افتراضيٍّ أيضًا...

وعليه، قد يكون من أخطر نتائج التطوُّر التكنولوجيّ أنّه يدفعُ الإنسان إلى العيش في عالَمه الافتراضيّ الخاصّ، ويُشعرُه أنّه غيرُ مُحتاجٍ إلى الآخرين في حياته، أو إلى التواصل معهم. وغنيٌّ عن القول ما للتواصل بين البشر من أهمّيّةٍ على أكثر من صعيد؛ فالإنسان، بحسب علم النفس، يعرِفُ نفسَه عبر التواصل مع الآخرين، ويتصالح مع نفسه بمساعدتهم، وينمو ويرتقي بحضورهم الفاعل في حياته. صحيحٌ أنّ الإنسانَ يستطيع أن يُلبّي الكثير من حاجاته افتراضيًّا، ومن دون تواصُلٍ مع إنسانٍ آخر، لكنّه إذا ما استَرسَل في ذلك سيفقد مع الوقت حتمًا، خُصوصيَّتَه الاجتماعيّة، بما فيها تقنيّات التواصل البشريّ، كما سيفقد خُصوصيّته الإنسانيّة، بما فيها التعبير عن المشاعر، وفَهم الآخرين في ظروفهم، والمبادرة إلى مساعدتهم.

ت‌. تراجُعٌ في التعامُل الإنسانيّ: على الرغم من أنَّ هَمَّ التطوُّر التكنولوجيُّ هو الإنسان وتلبية حاجاته، بأسرع طريقةٍ وأسلمها وأسهلها، وقد حقَّقَ وما زال يُحقّقُ الكثير في هذا المجال، إلاّ أنّ الخطورة التي بدأت في الظهور تكمن في السعي لتلبية حاجات الإنسان من دون الاكتراث إلى أبعاده الإنسانيّة، ولا سيّما التواصُليّة منها. وخيرُ مثالٍ على ذلك أنّ بعض الدول بدأت الاستعاضة عن طبيب العائلة بـ «روبوت» يمكنه أن يُشخّصَ مرض الإنسان على نحوٍ دقيقٍ وعِلميٍّ وسريع، مُستفيدًا مِمَّا خُزِّنَ فيه من علومٍ طبّيّةٍ وخُبراتٍ بشريّة، وأن يصفَ له الأدوية المناسبة بحسب حالته الصحّيّة.

ومع أهمّيّة هذا التطوّر إلاّ أنّه، كمُثلائه، سيسلُخُ الإنسان عن بُعده الإنسانيّ، وسيشعِرُه بأنّ المقصود معالجتُه من دون الاهتمام بطريقة المعالجة، وسُرعةُ تلك المعالجة من دون النظر إلى نتائجها النفسيّة والمعنويّة! أفلا يحتاجُ المريض إلى أن يتكلّم مع طبيبه الشخصيّ، ويرتاحَ له، حتّى يثقَ بتشخيصه، ويقبل بتجرُّع الدواء؟ إنّ الخوف، كُلَّ الخوف، أن «يُشيِّئَ» التطوُّر التكنولوجيُّ الإنسانَ بحُجَّة أنّه يسعى لتحسين وضعه وخدمته على نحوٍ أفضل. لقد وُجِدَت التكنولوجيا من أجل الإنسان، ويجب أن تُستعملُ بما يُناسبُ كرامتَه وقيمته وإنسانيّته.

في المحصّلة، بقَدْر ما سَهَّلت التكنولوجيا حياة الإنسان فإنّها تزجُّه يوميًّا في نمطٍ ممزوجٍ بالتوتُّر الدائم. فكلَّما طلبتَ خدمةً الكترونيًّا، طُلِبَ منك فتحُ حسابٍ خاصٍّ بك؛ ولكلِّ حسابٍ كلمةُ سرّ؛ وهذه الكلمة يتوجّبُ تغييرها من فترةٍ إلى أخرى. والويل لكم إذا وضعتم هذه الحسابات على هاتفكم الخلوي، فهو مُعرّضٌ للسرقة، وفي أبسط الأحوال، مُعرّضٌ للتلف وضياع معلوماتكم! يكفي أنّكم مضطّرون بين الحين والآخر لتغيير هاتفكم المحمول وحاسوبكم الشخصيّ وسيّارتكم القديمة؛ وفي كلّ تغيير، يُطلبُ منكم تعلُّم تقنيّاتٍ جديدة، والويل لكم إن لم تلحقوا بالتطوُّر اليوميّ لأنّكم لن تستطيعوا فتح تلفاز منزلكم عندئذٍ!

وحتّى يُخفّف الإنسان من توتُّره، يجدر به أن يستعمل التكنولوجيا في حياته من دون أن يسمح لها بأن تستعمله. فالسيّارة حاجةٌ لكنّ المشيَ له فوائد صحّيّة جمّة؛ والهاتف المحمول ضرورةٌ لكنّ عدم الاستعباد له أمرٌ جوهريٌّ؛ واستعمال الحاسوب لا مفرَّ منه لكنّ اللقاء بالأشخاص والتحدّث معهم يُبعد الإنسان عن كثيرٍ من الأمراض النفسيّة والعقليّة؛ واللجوء إلى آلةٍ تقوم مقامَ طبيبِ العائلة مفيدٌ جدًّا، لكنّه لا يُغني عن اللقاء بالإنسان المريض لفَهم حاجاته، ولا سيّما منها النفسيّة والمعنويّة. وفي النهاية نسأل: ألا يمكن الجمع بين الإفادة من التطوُّر التكنولوجيّ مع المحافظة على حياةٍ إنسانيّةٍ بسيطةٍ وسهلةٍ وطبيعيّة؟ أفلا يمكننا استعمال التطوُّر التكنولوجيّ بما لا يَضُرُّ بإنسانيّة البشر، بل يُحافظُ على قيمتهم وكرامتهم؟!

رابعًا: التوتُّرات والحروب

بالإضافة إلى كلّ ما ذُكِرَ سابقًا، ممّا يُمثّلُ تهديدًا حقيقيًّا للبشريّة، فإنّ ثمّةَ تهديدًا مباشرًا خَبِره البشر في الماضي وتزدادُ ضراوته اليوم، يتمثّلُ في التوتُّرات الداخليّة التي تشهدها بُلدانٌ عديدةٌ في العالم، تصل أحيانًا حدَّ النزاعات المسلّحة، والاشتباكات العسكريّة بين الدول، وامتلاك الأسلحة النوويّة، والسباق إلى التسلُّح.

أ‌. توتُّراتٌ أمنيّةٌ داخليّة: تشهد الكثير من البلدان توتُّراتٍ داخليّةً تُهدّد وَحدتها وأمن سكّانها، وقد أودت بحياة عددٍ كبيرٍ منهم. ففي الشرق الأوسط، وعلى الرغم مع انتهاء الحرب في لبنان والعراق وسوريّا، إلاّ أنّ هذه البلاد ما زالت تشهد توتُّراتٍ أمنيّةً بين الحين والآخر. وكذلك القول بالنسبة إلى اليمن والسودان وبعض دول إفريقيا. وقد شهدت فرنسا تظاهراتٍ حاشدةً هذه السنة، وفي أكثر من مناسبة، تحطّمت فيها المحالّ التجاريّة والمرافق العامّة؛ واندلعت احتجاجاتٌ حاشدةٌ في إيران مَثَّلَت التهديد الأكثر حِدَّةً منذ الحركة الخضراء عام 2009.

ب‌. حروبٌ واستعدادٌ لحروب: تشهد بعض البُلدان حروبًا بدأت في هذا العام، أو أنّها تجدّدت فيه. وفي مثالٍ على ذلك، فإنّ الحرب بين روسيّا وأوكرانيا بدأت منذ نحو عامٍ ولمـّا تنتهي بعدُ. وقد اندلع مُؤخّرًا قتالٌ على الحدود الأرمنيّة الأذربيجانيّة، في تصعيدٍ هو الأكبر منذ الحرب التي اندلعت عام 2020، ولئن انتهى لحُسن الحظّ بهُدنةٍ بعد نحو يومَين، فإنّه انطلقَ من جديدٍ عام 2023 وأسفر عن تهجير كامل سكّان إقليم ناغورنو كاراباخ وهم من الأرمن. وتستمر التوتُّرات بين الهند وباكستان، في مناوشاتٍ محدودةٍ على حدودهما، وتهديداتٍ مستمّرةٍ بالتصعيد، ومن غير المتوقّع أن يتّجه هذا الوضع إلى الهدوء. كما تجدّدت الحرب بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، ولا سيّما في قطاع غزّة، إبّان خطِّ هذا المقال.

من جهةٍ أخرى، فإنّ العديد من البُلدان تعيش حالة «الحرب الباردة»، أي أنّها تقترب من الحرب وهي في حالة استعدادٍ لها؛ فقد شهد شمال كوسوفو توترًا كبيرًا بين سلطات كوسوفو والأقليّة الصربيّة الموجودة شماليَّ البلاد، ممّا يُهدّد بإعادة انطلاق الحرب في تلك المنطقة. وتشهد العلاقات بين الصين وتايوان تصعيدًا قياسيًّا، وصولًا إلى تنفيذ الصين مناوراتٍ عسكريّةً واختراق طائراتها الحربية أجواء تايوان. وثمَّةَ توتُّرٌ آخر بين الصين وجارتَيها الفيليبين والهند. كما أنّ مواجهةً بين كوريا الشماليّة وجارتها الجنوبيّة والولايات المتّحدة ممكنةٌ أيضًا.

وباختصار، فإنّ عددًا من دول العالم يشهدُ اضطراباتٍ داخليّةً واشتباكاتٍ مُسلّحةً تُخلّفُ الدمار والقتل؛ وعددًا آخر يشنُّ حروبًا ضدَّ بُلدانٍ أُخرى بما توفّرَ له من أسلحة؛ وعددًا من الدول يشهدُ حالةً يمكن وصفها بأنّها أدنى من حربٍ وأعلى من تصعيد.

ت‌. امتلاكُ السلاح النوويّ: في عام 1970، وقّعت 191 دولةً على معاهدة منع انتشار الأسلحة النوويّة، من ضمنها الولايات المتّحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين. وفي حين التَزَمت الدول الموقِّعة على المعاهدة بتخفيض عدد أسلحتها النوويّة وصولًا إلى الاستغناء عنها تمامًا، رفضت بعض الدول النوويّة الأخرى مِن مِثل إسرائيل والهند والباكستان الانضمام إلى هذه الاتّفاقيّة، وأمّا كوريا الشماليّة فانسحَبَت منها في عام 2003.

ومع انخفاض كميّات الأسلحة النوويّة في العالم تطبيقًا لقرارت عددٍ من الدول النوويّة، يُعتقد أنّ حكوماتِ بعض البلدان بدأت تُنتج المزيد من هذه الأسلحة، وحكوماتٍ أُخرى هي في صدد تطويرها! لذلك، يمكن القول بأسفٍ إنّه لا يبدو أنّ ثمّة نهايةً قريبةً للأسلحة النوويّة. وقد حذّر الأمين العام للأمم المتّحدة، أنطونيو غوتيريش، بقوله: إنّ القِوى النوويّة تُطوّر ترساناتها لتصبح أسرعَ وأكثرَ دقّة، مع صعوبة الكشف عنها؛ وأمّا خطر وقوع كارثةٍ نوويّةٍ فقد بلغ أعلى مستوياته منذ فترة الحرب الباردة.

ث‌. سباقٌ إلى التسلُّح: تزداد الدول التي تجنح إلى صناعة الأسلحة، والتفوّق في تطويرها، وبيعها للدول التي تشهد حروبًا. وفي حين كانت أميركا وروسيّا وفرنسا والصين وألمانيا وبريطانيا مِن أبرز الدول التي تُصنِّعُ الأسلحة وتُصدِّرها، انضمَّت إليها الآن كلٌّ من تركيا وإيران وإسرائيل. والأخطر من ذلك أنّ السباق إلى التسلُّح عاد ليشمَلَ السلاح النوويّ، كما أسلَفنا، بمعدّلاتٍ مُتفاوتة. فقد عادَت بعض الدول كالولايات المتّحدة الأميركيّة وروسيا الاتّحاديّة إلى تحديث الرؤوس النوويّة وأنظمة إطلاقها ومنشآت إنتاجها. وأمّا الدول النوويّة الأخرى، أي بريطانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشماليّة، فلديها برامج مماثلة، لكنّ معظمها قد تكون أقلَّ جاهزيّةٍ لتطوير منظوماتها وزيادة المخزون في ترساناتها أو تحديثه، ربمّا باستثناء كوريا الشماليّة.

في المحصّلة، وعلى الرغم من اختبار الإنسان الحربَين العالَميّتَين، الأولى والثانية، وإدراكه أنّ الحروبَ لا يمكن أن تقودَ إلى حلولٍ لمشكلاته، فإنّه ما زال يلجأ إليها في أي منعطفٍ خِلافيّ، ويُهدّد بنشوبها، وكأنّ حياة الإنسان، وهي وقود الحروب عادةً، لا قيمة لها عند حكّام العالَم. ونسأل: ألم يُدرك الإنسان من تاريخه الدمويّ أنّ الحروب تقود إلى الحروب، والقتل يستجرُّ القتل؟! ألم يتعلّم بَعدُ أنّ كلفة الحروب كبيرة، موتًا وإعاقةً وتهجيرًا ومآسيَ وعُقدًا نفسيّةً ونزعةً للانتقام، ومَن لم يُشارك بها فعليًّا من البشر يتحمّل وزرها الاقتصاديّ تضخُّمًا ماليًّا؟! ثُمَّ ما ذنبُ الضحايا البشريّة التي تُزهق أرواحها يوميًّا، لا لشيءٍ سوى لتقوية المواقف السياسيّة في حال التفاوض بين الحكومات؟

في الواقع، الحروبُ لا تُفضي إلى حلول، والأطراف المشاركة فيها خاسرةٌ كُلُّها. كما أنّه كُلّما توجّهنا إلى الحروب ابتعدنا عن الحلول السلميّة لسنواتٍ وسنوات، فالحروب تُولّد الكراهية والعداء، وهذه لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة بسهولة، وحَسبُنا أن نرى ما يجري اليوم في الأراضي المقدّسة ما بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين! في عُرفنا أنّ أكبر المشكلات في حياة البشر، وتلك التي تقوم بين الدول، يمكن أن تُحَلَّ بالحوار والرغبة الصادقة بالوصول إلى حلول، هذا إذا ما اقتنعنا أنّ للإنسان قيمةً، وهو غايةٌ في ذاته لا وسيلة.

الخاتمـــة

كلّ ما أوردناه سابقًا من أخطار على البشريّة، أكان لسببٍ بيئيٍّ أو أخلاقيٍّ أو تكنولوجيٍّ أو حربيّ، يمكن إدراجه في إطار المحسوس والمؤكَّد. لكن، ثمّة أخطارٌ من نوعٍ آخر، غيرُ محسوسةٍ هذه المرّة، ولا سيّما ما يُحاك ضدَّ الإنسان من مؤامراتٍ لأسبابٍ وأسباب. ومع أنّنا لسنا مع نِسبَة كلِّ ما يجري على نحوٍ ساذجٍ إلى نظريّة المؤامرة، لكنّنا، في المقابل، لا نشكُّ البتَّة في أنّ بعض المتنفّذين في العالَم يُخطّطون في لقاءاتهم للتحكُّم بحياة البشر والسيطرة على الإنسان. ومَن يعلم، فقد يُعلَنُ في السنوات القادمة أنّ فيروس كورونا لم يكن إلاّ حصيلة مؤامرةٍ على البشريّة، هدفها مادّيٌّ لتكديس الثروات من جرّاء بيع اللقاحات، أو إفنائيٌّ يبتغي تقليل أعداد البشر، أو ما سوى ذلك!

في الواقع، إنّ أكثر ما يُبعدُ الإنسانَ عن سلوك مسار حَلِّ مشكلاته الوجوديّة أنّ عددًا من حكّام الأرض مُصابون، ويا للأسف، بجنون العظمة وهَوَس القدرة ونزعة السيطرة، فإنّهم، بالإضافة إلى تغاضيهم عن المعضلة البيئيّة، وتشجيعهم النزعةَ الفرديّة في ما يخصُّ المسائل الأخلاقيّة من دون رادعٍ أو وازع، يُهدّدون يوميًّا باللجوء إلى الحروب، بل باستعمال الأسلحة النوويّة لإفناء بعضهم بعضًا! وعليه، قد ينجو عالمنا من نهايةٍ محتومةٍ إذا ما عادَ قادةُ العالَم إلى رُشدهم، وعقدوا العزم على معالجاتٍ سريعةٍ على مختلف الصُعُد، مُبتعدين عن مصالحهم الأنانيّة والفئويّة والمناطقيّة. وقد ينجو عالمنا من نهايةٍ محتومةٍ أيضًا إذا ما أدرك الإنسان أنّه ليس دُميةً بيد سلاطين هذا العالَم، وراحَ يضغطُ لاستعادة حقوقه، ولا سيّما من أجل حياةٍ كريمةٍ هانئةٍ مُستقرّة، وفَرض رأيه وتوجّهاته في ما يخصُّ مُستقبله على الأرض.

قد تكونُ نظرتنا في هذا المقال تشاؤميّة؛ لكنّها، في الحقيقة، واقعيّةٌ وإنْ كانت مُؤلمةً أو حتّى مأساويّة. فقد تطوّر الإنسان بتسارُعٍ كبيرٍ ابتداءً من منتصف القرن العشرين، لكنّ تطوُّره لم يترافق مع تقدُّمه! لا بل يظهر أنّ قيمةَ الإنسان وحدَها في تراجعٍ فاضح، وبدلاً من أن يكونَ غايةً في ذاته، نراه يُستعملُ وسيلةً لأغراضٍ وأغراض! ونسأل، أما آن للإنسان أن يُنقذ عالَمه لتستمرَّ حياتُه فيه؟ ألاّ يستطيع، بقليلٍ من الجهد والتمسُّك بالحوار الهادئ والهادف، أن يحُلَّ خلافاته على نحوٍ سِلمِيٍّ بعيدًا عن النزاعات والحروب؟ وألا يحُقُّ لنا أن نتصوّر عالمنا يعيشُ في سلامٍ على الرغم من اختلافات البشر، دينًا وعِرقًا وثقافةً وقناعات؟!

 

اقرأ في النهار Premium