يتساءل البعض، لماذا أرادت السعودية استضافة إكسبو بهذا الحرص والاهتمام الكبيرين؟ ألم يكفها النجاح الذي حققه جناحها في إكسبو دبي ٢٠٢٠ والجوائز التي حازها، والستة ملايين زائر؟ ألم تكفِ مشاركاتها في آخر عشرة معارض وما تحقق لها من حضور؟ لماذا إكسبو بعد المعارض والمناسبات العديدة التي بادرت بها أو فازت باستضافتها، كمعرض الدفاع العالمي، ومبادرة الاستثمار وأولمبيّات آسيا وقمة الأندية العالمية وكأس العالم؟
عشرة آلاف فعالية في العام، في مختلف المجالات، من الرياضة إلى السياسة، ومن الصحة إلى التعليم، ومن الثقافة إلى الترفيه، أليست عبئاً مالياً وإدارياً على الأجهزة الحكومية والخاصة، قد تشغلها عن مشاريعها ومسؤولياتها العديدة؟
ثمّ ما علاقة إكسبو بالرؤية السعودية ٢٠٣٠؟ ولماذا تهتم خطة تنمية باستضافة معارض ومباريات وفعاليات بهذا الحجم وهذه التكلفة؟ ألا تؤثر هذه المصاريف والتكاليف في التركيز على بناء المشاريع الكبرى التي ستنقل البلاد من مرحلة الاعتماد على النفط إلى مرحلة تنوع موارد الدخل القومي؟
كلها أسئلة وجيهة، وتستحق الإجابة للتوضيح والتفنيد. فليس كلّ متابع صاحب خبرة في التنمية الشاملة، وجودة الحياة، والمكانة الدولية؛ ولا كلّ مراقب مهما بلغت ثقافته العامة يُدرك تشعّبات الرؤية، وترابط وحداتها، وتنوّع مجالاتها.
إكسبو يعتبر أعظم تظاهرة ثقافية في التاريخ. فمنذ أول معرض أقيم عام ١٨٥١ في لندن، تجوّل المعرض كلّ خمسة أعوام من مدينة إلى أخرى، عبر القارات؛ وشاركت فيه بلدان وحضارات ومنظّمات أمميّة، وصلت إلى أكثر من مئتين؛ وارتاده مئات ملايين الزوار للاطلاع على أوجه الحضارة الإنسانية كما تعبّر عنها ثقافات الشعوب.
تنافس على استضافة إكسبو ٢٠٣٠ خمس دول، انسحبت منها دولتان، روسيا وأوكرانيا لظروف الحرب، وبقيت في الحلبة ثلاث: السعودية وإيطاليا وكوريا. وفي الجولة الأولى للتصويت، حصلت إيطاليا على ٢٩ صوتاً، وكوريا على ١٧. وفازت السعودية بـ١١٩صوتاً، وهو أعلى رقم تحظى به دولة في تاريخ المعرض.
يُعزى الفوز إلى عوامل عدة، أبرزها: التخطيط المسبق، والتنسيق العالي، والبرنامج المدهش. فالعمل على كسب الاستضافة بدأ منذ اليوم الأول للتقديم منذ عامين، فشكّلت ورشة عمل وزارية تحت إدارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وكلّفت كلّ وزارة وجهة رسمية أو خاصة بوضع وتنفيذ خطة عمل مكثفة، تشمل تصميم مدينة معارض من الصّفر بمعايير القرن الواحد العشرين البيئية والتقنية والمعمارية؛ وتمثل بفكرتها وأسلوبها كلّ ما قامت عليه مشاريع الرؤية السعودية من مواءمة بين التراث المحلي والعربي والعالمي وأحدث ما وصلت إليه الحضارة البشرية.
وفي نفس الوقت، انطلقت الوفود حول العالم لبناء الجسور الدبلوماسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية مع جميع البلدان، الكبرى والصغرى، التي ترتبط مع المملكة بعلاقات سياسية وثقافية وتجارية، والتي لم ترتبط من قبل، كالجزر الكاريبية. وعقدت القمم والمناسبات، ودعيت هذه البلدان إلى فعالياتها العديدة. وهكذا، ضاعفت الرياض من حضورها ومكانتها دولياً، وتمكّنت من كسب المستثمرين وأسواق الاستثمار، وتقديم المساعدات الإنسانية، وكسب الأصوات للقضايا العربية، ولاستضافتها للمناسبات الدوليّة.
ولكي تنجح في التحوّل إلى منصّة لوجستية في قلب خريطة العالم، بين شرقه وغربه، شماله وجنوبه؛ ولكي تربط سلاسل الإمدادات ودروب التجارة وحركة المواصلات الجوية البحرية البرية العالمية بموانئها ومطاراتها وسككها الحديدية ومدنها الصناعية واللوجستية، كان لا بدّ من انفتاح كوني، ثقافي واجتماعي وتجاري؛ وكان لا بدّ من أن نذهب إلى العالم وأن يأتي العالم إلينا، وأن يعرف كلّ سائح ومثقف ومستثمر وتاجر بموقعنا على كلّ الخرائط، وأن يتعرّف على منتجاتنا والفرص المتاحة للمهتمين.
أتينا بالمبدعين والحالمين والمؤثرين في كلّ المجالات فتبعتهم عقول وقلوب. ومثال ذلك، دوري روشن لكرة القدم، ودخول صندوق الاستثمارات العامة والشركات القيادية لشراء الأندية الكبرى، وتوفير أفضل الملاعب واللاعبين والمدربين، ومنافسة أشهر وأكبر المسابقات العالمية. كذلك، شاهدت جماهير ١١٠ دولة في العالم مباراة الكلاسيكو بين الهلال (صاحب الميدالية الفضية في مسابقة الأندية العالمية ٢٠٢٢) ونادي النصر، الذي اشتهر دوليّاً بكسبه لكؤوس القارة الآسيوية والبطولات العربية وضمّه أشهر اللاعبين، مثل روبيرتو رونالدو.
ومن ناحية أخرى، قدّمنا للعالم عرضاً يصعب رفضه. فمدينة إكسبو، التي ستكلّف قرابة الثمانية مليارات دولار، ستعتمد بالكامل على الطاقة الشمسية، وستستخدم موادَّ قابلةً للتدوير، وستقدّم أطعمة صحيّة بلا هدر، وستوفر أجنحة مجانيّة ونقل لموادّ العرض على حسابها لمئة دولة نامية، سيكون باستطاعتها في نهاية المعرض حمل الأجنحة معها. فمباني الأجنحة قابلة للتفكيك والنقل، ثمّ إعادة تركيبها كمدارس وعيادات ومراكز بحثيّة ومكتبات من ضمن حزمة مساعدات الصندوق السعوديّ للتنمية للدول الأكثر احتياجاً.
والوصول إلى مقرّ إكسبو الرياض سيكون الأسهل والأقرب والأوفر، فالسعودية ستمنح تأشيرة إكسبو لكلّ راغب في الحضور، وستنقله مباشرة من صالات القدوم إلى المعرض خلال ١٠ دقائق عبر قطار كهربائيّ سريع، ومن دون توقّف. فقد اختير موقع المعرض بالقرب من مطار الملك سلمان الجديد، تيسيراً على الزوار، وتخفيفاً من الازدحام المروري، وحفاظاً على البيئة بتخفيض انبعاثات الكربون الناتجة عن وسائل النقل، خاصة إن علمنا أن موقع الرياض الاستراتيجي يضعها على بعد ٥ ساعات فقط من نصف سكّان الكرة الأرضيّة.
والمعرض الذي سيقام على مساحة ٦ ملايين متر مربع، وستشارك فيه ٢٤٦ دولة وجهة، يتوقع أن يزوره ٤٠ مليوناً، إضافة إلى مليار زائر على منصّته الرقميّة، التي ستوفر تجربة غير مسبوقة للزيارة الافتراضية باستخدام التقنيات الحديثة المتعدّدة الأبعاد، إضافة إلى التغطية الخبريّة المصوّرة الحيّة على مدار الساعة.
استفادة السعودية عامة، والرياض خاصّة، من استضافة المعرض الذي يحمل في نسختِه ٢٠٣٠ عنوانَ "حقبة التغيير: معاً نستشرف المستقبل" تشمل تطوير البنية التحتيّة وشبكات الاتصال والمواصلات وتوفير وسائل نقل حديثة. فالمعرض حافز قويّ لتسريع ومضاعفة مشاريع البناء والتطوير، وزيادة عدد سكان العاصمة من ثمانية إلى خمسة عشر مليوناً. واستضافة عشرات الملايين من الزوار على مدى ستة أشهر، بينهم السائح والتاجر والمستثمر، العالم وطالب العلم، الطبيب والمهندس والفنان، الحاج والمعتمر، مما يعني توفير جميع الخدمات العامة والمميّزة لهم لتيسير استكشاف تاريخ وثقافة البلد، والتعرّف على تراثها ومدنها وقراها، جبالها وصحاريها وسواحلها، بالإضافة إلى الاستمتاع بفعالياتها والمشاركة في مؤتمراتها وأنشطتها وحضور مسابقاتها التعليمية والثقافية والرياضية، وأداء النسك الإسلامية.
كلّ هذا يعني تنمية، وظائف، تعارفاً أممياً، وفرصاً للضيف والمستضيف للعمل معاً نحو مستقبل أفضل، وحياة أكثر أمناً وجودة ورخاء. وهذا هو جوهر الرؤية السعودية ٢٠٣٠ التي يصادف عام إكسبو الرياض استكمالها، وانطلاق الرؤية ٢٠٤٠. ومن لم يصدّق أن السعوديين قادرون على تحقيق خطّة التحوّل الوطني سيجدون الفرصة مواتية للتثبت من تجاوز مستهدفاتها، ومصداقية الرؤية المقبلة.
أما استفادة المنطقة العربية من هذه الاحتفالية الكونية، فتشمل الفرص المواتية لتقديم الهوية الثقافية، والمجتمعية، والقومية للعالم، فضلاً عن تعميم الفوائد المباشرة وغير المباشرة على قطاعات النقل والسياحة والتجارة والاستثمار في البلدان العربية. وستحصل البلدان النامية منها على نفس المزايا التي ستمنح لمثلها.
مبارك للسعودية، مبارك للخليج، مبارك للعرب، استضافة الرياض لأكبر تظاهرة ثقافية دولية في العام ٢٠٣٠… وهنيئاً لكلّ مشارك وزائر بكرم الضيافة العربية وفرصة زيارة بيت العرب وقلب الجزيرة العربية.