بكر حلاوي
تزامناً مع اشتعال جبهة جنوب غزة، وتصاعد وتيرة الجبهة الجنوبية اللبنانية، حمل مدير المخابرات الفرنسية إلى بيروت مقترَحاً غربياً، يجمع بين مبادئ كلاسيكية وتطوّرات مستجدّة، ويتناسب مع تعقيدات الصراع الجاري ومخاوف امتداد النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني إلى جبهات أخرى في المنطقة.
في البداية، قدّم الفرنسيّون إلى المسؤولين اللبنانيين تمنياً تقليدياً بإغلاق ملف الرئاسة الشاغرة، وطرحاً جديداً متعلقاً بالفراغ، وهو تمديد ولاية قائد الجيش. وهذا كان محور زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي "لودريان" الأسبوع الماضي. الآن، انتقل الفرنسيون، بدفع غربيّ واضح، خطوة إلى الأمام، داعين إلى تجاوز الفراغ الرئاسي والبيروقراطية اللبنانية التقليدية في تشكيل السلطات. ودعوا إلى إنهاء الصراع اللبناني الإسرائيلي من خلال إفراغه من أي محتوى متفجر متبقٍّ. وهذا كان محور زيارة مدير المخابرات "برنار إيمييه".
قدم إيمييه صيغة تحاكي تنفيذاً جديداً لقرار مجلس الأمن 1701، بدلاً من التنفيذ الشكلي الذي كان سارياً منذ عام 2006، مقابل انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي المتنازع عليها في جنوب لبنان. يطرح الفرنسيون بشكل آخر الطلب الأميركي الذي تضعه إدارة الرئيس "بايدن" نصب أعينها وهو الترسيم البري، بعدما توصّل المبعوث "آموس هوكستين" إلى الترسيم البحري قبل قرابة العام بين لبنان وإسرائيل، وهو طبعاً كان اتفاقاً غير مباشر بين حزب الله وإسرائيل.
منذ عدة أشهر، تحدّث عضو لجنة الصداقة اللبنانية - الأميركية في الكونغرس "داريل لحود" خلال ندوة مع وزير الخارجية السابق "ديفيد هيل" عمّا تراه واشنطن لمستقبل لبنان المزدهر. أكد لحود أن إنجاز الترسيم البحري لا بدّ أن يستمرّ بإنهاء الخلاف الحدودي البري بين الطرفين، وتأهيل الظروف لوضع لاحق مسالم بين البلدين، وهذا هو الحل الوحيد لازدهار الاقتصاد اللبناني. بعد أسابيع، أرسل اقتراح الترسيم البري للبنان، خصوصًا أن نقاط الاختلاف قليلة نسبةً إلى الخلاف البحري السابق، ولكن سرعان ما تعالت الأصوات الرافضة لهذا الترسيم واصفينه بأنه اعتراف رسمي من لبنان بإسرائيل، وهذا كان صلب تصريحات حزب الله وحلفائه.
عطفاً على ما تم ذكره أعلاه، يظهر بوضوح أن حزب الله سيرفض صيغة المقترح الفرنسي الحديث، الأميركي القديم، للترسيم البري، حتى لو كان الحل كما يريد لبنان بشكل كامل، أي الانسحاب من مزارع شبعا وشمال الغجر والقرى السبع وسائر النقاط الحدودية العالقة. يعود ذلك إلى أسباب عقائدية وسياسية وحتى وجودية. فالحزب لن يقبل بنزع فتيل الصراع المحتمل المستمر مع إسرائيل، وربما يسأل شخص في الجنوب فيما بعد عن سبب استمرار حالة الحرب الدائمة إذا لم يكن لدينا أسرى (كما بُررت حرب العام 2006) أو لم تبقَ أرضٌ محتلة لتحريرها.
جواب الحزب الواضح يؤكد استمرار منهجية المحور التي بدأت في إيران، وصولاً إلى دول المواجهة، أي سوريا ولبنان، وهي بقاء النار خامدة ولا يمكن إطفاؤها إلا من خلال تسوية كبرى في المنطقة تكون طهران الشريك الأساس فيها. يتعين هنا التذكير بما حدث في العامين 2009 و2010 عندما فُتحت صفحة جديدة في العلاقات اللبنانية السورية تحت مظلة "السين-سين". في ذلك الوقت، طلب لبنان ترسيم الحدود بين البلدين بشكل نهائي. ردّ الجانب السوري بالموافقة، ولكن على أن تُرسم ابتداءً من العبدة في شمال لبنان وصولاً الى شبعا في الجنوب! والجميع يعرف ما حدث بعد ذلك.