النهار

المسيحيّة التي نحتاجها في ذكرى عيد ميلاد يسوع هذه السنة
غسان صليبي
المصدر: "النهار"
المسيحيّة التي نحتاجها في ذكرى عيد ميلاد يسوع هذه السنة
بيت لحم.
A+   A-
 
 
غسان صليبي
 
ذكرى ميلاد يسوع تعيدنا تلقائياً إلى أرض فلسطين حيث وُلد، وإلى تعاليمه كما بشّر بها، وخاصة كما عاشها، بعيداً من التشوّهات التي أدخلتها إليها لاحقاً السلطات المسيحية، الكنسية والسياسية.
 
قبل ولادته كان هناك احتلال أيضاً للأرض من جيش الأمبراطورية الرومانية وحكّامها. وكانت هناك مقاومة عسكرية ضدّ الاحتلال، دينية الهوية، يهودية تحديداً.
 
بعد ألفي سنة من الميلاد عاد الاحتلال إلى أرض فلسطين، لكن بلباس يهودي هذه المرّة. المقاومة تحوّلت إلى احتلال لفلسطين، وقد واجهت مقاومة عسكرية بدورها من الشعب الفلسطيني، بدأت وطنية وتحوّلت اليوم إلى دينية، إسلامية تحديداً.
 
يسوع، اليهودي المولد، لم ينخرط في المقاومة العسكرية اليهودية في حينه، والتي كان يقودها المدعو براباس، الذي اختاره الشعب اليهودي، عندما خيّره بيلاطس، بينه وبين يسوع، فأُطلق سراح براباس وحُكم على يسوع بالصلب.
 
يسوع اعتنق المحبة عقيدة، في وجه الصديق والعدو، وانتهج طريق المقاومة اللاعنفية، رأياً حراً ناقداً، وتعليماً جماهيرياً، وخدمة إنسانية، وموقفاً صلباً لا يتزعزع. لم يواجه يسوع العنف والمال فقط، رمزَي التسلّط الروماني، بل صبّ نقمته على سلطات شعبه اليهودي، الزمنية، والدينية خاصة.
 
لا أعرف ماذا كان يمكن أن يكون موقف يسوع أمام عنف الاحتلال الإسرائيلي في غزة اليوم، وفي مدن وقرى فلسطينية أخرى البارحة أو غداً.
 
ماذا كان يمكن أن يكون موقفه لو وُلد يهودياً، في دولة إسرائيل، في هذا الوقت بالذات؟ لا تغرق هذه الفرضية كثيراً في الخيال، فهو وُلد في بيئة يهودية وعلى أرض فلسطين، والأرض لا زالت هي هي، أمّا البيئة فقد تحوّلت إلى دولة احتلال.
 
بحسب تعاليمه وممارساته ومواقفه المعروفة تجاه السلطات اليهودية وتجاه الاحتلال الروماني، من الممكن أن يكون موقف يسوع جازماً وقاطعاً ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وممارساته، وكان سينخرط باسم المحبة، في مقاومة لاعنفية ضدّ الصهيونية ونظامها العنصري، مطالباً بالتأكيد برفع الاحتلال. وعلى الأرجح كان سيُقتل، اغتيالاً أو رمياً بالرصاص.
 
كان يسوع سيتواصل مع صديقتي المسلمة سميرة من غزة، ومع غيرها، لا سيّما أنّ سميرة كتبت عن الحبّ، وسط الخراب والموت والكراهية والعذاب والنزوح والتشرّد والألم. كتبت من رفح في غزة، على الحدود الفلسطينية- المصرية، قبل أن تصل إليها مخالب الوحش الإسرائيلي: "صباح الخير من غزة الصامدة، هل لي الآن أن أحدّثكم عن الحبّ؟ الحبّ في زمن الحرب جميل، لا تستمعي لسمفونية السماء مع الطيران... تراقصي مع موسيقاكِ وتأملي الكون وجميع المفاهيم وأعيدي صياغتها وتصحيحها من جديد فلا يتعارض الحبّ مع أخلاق الموتى والشهداء؟ وإن تعارض فلماذا يموت الناس؟ أليس حبّاً بالوطن؟ فامنحيهم نظرة من عينيكِ ليفهموا أنّه عليهم أن يحيوا من أجل الوطن نفسه. فلا شيء يعادل الحبّ إلّا الحياة بحبّ".
 
السؤال الأهمّ ما كان يمكن أن يكون موقف يسوع ممّا يجري اليوم على أرض فلسطين؟ هو أيّ مسيحية كانت ستولد معه لو وُلد في أحضان دولة إسرائيل الحالية؟ حسناً، دعكم من تشويه التاريخ والاعتماد على الفرضيات، ولنطرح السؤال مباشرة: "أيّ مسيحية يجب أن تولد من جديد، على أرض فلسطين، المحتلة اليوم من اليهود وليس من الرومان؟ كيف على المسيحية الجديدة أن تنظر إلى علاقتها بالعهد القديم، الكتاب الذي شكّل الحجة الدينية المقدسة القبيحة للاحتلال؟ هل عليها أن تكون على شاكلة المسيحية الإنجيلية الصهيونية في أميركا، الداعمة لإسرائيل، أو على شاكلة الجماعات المسيحية التي اعتمدت لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، وانخرطت في تحرير بلدانها من الاستبداد الداخلي والتبعية الخارجية؟
 
بعد أربعة قرون من النضال السلمي، تمكّنت المسيحية الأولى، بسلمية تامّة، من مواجهة قيم العنف والمال، ومن إخضاع الأمبراطورية الرومانية لعقيدتها. فكم نحن في حاجة اليوم، على مشارف عيد الميلاد، إلى مسيحية متجدّدة، بقيادة البابا فرنسيس، تواجه بشجاعة عقيدة الغرب المسيحيّ، الرأسمالي- الاستعماري، القائمة على العنف والربح والاحتلال، والداعمة لأكبر مجزرة بشرية في عصرنا، بما يناقض كليّاً التعاليم المسيحية كافة.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium