النهار

أميركا... حرب الممرات البحرية وذاكرة السمكة
د. خالد محمد باطرفي
المصدر: "النهار"
أميركا... حرب الممرات البحرية وذاكرة السمكة
من عملية الحوثيين ضد إحدى السفن الأجنبية.
A+   A-
احذر من الدوس على أقدام الآخرين وأنت في طريقك لتولّي قيادتهم، لأنك ستواجههم عندما تفشل أو تنتهي ولايتك؛ فلكلّ شيء نهاية.

والولايات المتحدة الأميركية كانت أحكم وأرشد عندما بدأت تسلّقها سلالم القوة والمجد في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ففتحت أبوابها للحالمين بالحرية والناشدين الارتقاء والرخاء والسعادة.

وبعد الحرب العالمية الثانية، أدركت بأنّ قوتها باتت لا نظير لها، وأن ثروات العالم التي احتكرها المستعمر الأوروبيّ أصبحت في متناول قبضتها، وأن عرش السلطة الكونية قاب قوسين أو أدنى من حاكم المكتب البيضاوي.

كسرت الحرب العالمية الأولى عزلتها، وأنهكت الثانية منافسيها، فانفتحت شهيتها على السلطة واللحم والدم.
وبدأت تسابق الزمن لوراثة القوى العظمى، فحوّلت أعظم بحرية في التاريخ إلى قواعد متنقلة تنتشر في أرجاء الدنيا. ونشر أكبر أسطول طائر أجنحته حتى غطّى الشمس من مشرقها إلى مغربها. ولم تعد بحاجة إلى التدثر بالقانون الدولي بعد أن أمسكت بالخيط والمخيط، ولا أن تراعي مصالح ومشاعر الآخرين طالما صارت الخصم والحكم والجلاد.

وبالرغم من جراح الحرب، استيقظت في مشرق الدنيا قوى عظمى للتصدّي والتحدّي، فكان الاتحاد السوفياتي أول من دخل مجلس الحكم بسلاحه النووي، وتبعته الصين. وتقسم العالم بين معسكرين، وتنادت الخصوم على حافة صراع وجوديّ كان يمكن أن يحرق الأرض ومَن عليّها.

انتصرت أميركا مرّة أخرى في الحرب العظمى الباردة، لأن نظامها الرأسمالي كان أنجح من النظام الشيوعي، فتغلّبت على خصومها بالدولار وهوليود وأحلام الحرية. تهاوى حزب روسيا وترنّح حزب الصين، ثمّ سقط الأول، ولعب الثاني في ملعب الراسمالية بشروطه فواصل اللعب.

كان يمكن للمنتصر أن يتواضع ويصبر ويلعب بشرف فيكسب العالم بلا قتال، لكنّه قرّر أن يغيّر العالم ويفرض عليه نظاماً جديداً من تصميمه وتحت إدارته. وعندما يخسر على ملعبه يغيّر الأنظمة على مقاسة فيربح في الشوط التالي.

يقول ابن خلدون إن الإمبراطوريات تبدأ مشوار السقوط عندما تحكم بلا مراعاة، ولا تقدير، ولا عدالة، لأنها لا تحتاج إلى كل ذلك. ويبدو أن الحلف الغربي الإسرائيلي بقيادة واشنطن وصل إلى هذه القناعة، وهذه المرحلة.

العالم الحرّ قرّر بعد حربين مدمّرتين، قتلت قرابة المئة مليون إنسان، وأفسدت حياة أضعافهم، أن يمنع تكرارها. ولتحقيق ذلك، أسس منظمات أمميّة، ووضع مواثيق مقدّسة لحوكمة العلاقات الدولية وتنظيمها، إلا أن التاريخ يكتبه المنتصرون، والقانون يضعه المتسلّطون، ويخترقه الأقوياء والمتحايلون.

يقول الفيلسوف الهندي طاغور: ما أعجب شبكة القانون تنفذ منها الحيتان ويعلق بها السمك! وهكذا كان. لكن توازن القوة، والثنائية القطبية حفظت شيئاً من الاحترام للقانون، ما دامت هناك حاجة إليه. ولمّا تعالى شأن قطب على آخر، تعالى ازدراء النظام وازدواج معايير التحكيم وعدم الحاجة إلى التبرير والتفسير.

والأمثلة على ما سبق أصبحت أكثر من الهمّ على القلب. فبعد أن أقام الغرب الدنيا ولم يقعدها على روسيا لغزوها أوكرانيا، وطالبوا برؤوس قادتها بتهمة جرائم الحرب، تأتي إسرائيل لتفضح نفاقاً لم يخطر على بال بشر.

وأخيراً، طالبت واشنطن دول الخليج المشاركة في تحالف عسكريّ للتصدّي لاعتداءات الحوثي على السفن التجارية في مضيق باب المندب الذي تمرّ عبرة 12٪ من التجارة الدولية… وكأن لهم ذاكرة سمكة.

نسَوا أو تناسوا أنهم مَن حال دون تحرير مدينة الحديدة التي تنطلق منها الهجمات الحوثية اليوم، بعد أن كانت جيوش التحالف على أبوابها تطبيقاً لقرارات مجلس الأمن، وفرضوا اتّفاق استكهولم، الذي يضع الانقلابيين على نفس مستوى الحكومة الشرعية ويمكّنهم من استئناف التعدّي.

وبالرغم من خرقهم المتواصل بنود الاتفاق، وقصفهم اليمنيين وجيرانهم بالصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة والقذائف الصاروخية والمدفعية، تقوم الإدارة الأميركية نفسها برفعهم من قائمة الإرهاب وتطالب الجيران بضبط النفس والحوار وتطبيق العقوبات على مَن يخالف.

واليوم، عندما هدّدت الميليشيات مصالحهم، وأطلقت الصواريخ والمسيّرات على أساطيلهم وربيبتهم إسرائيل، تطالبنا أميركا وبريطانيا بطيّ اتفاق السلام الذي طالما طالبونا به، وبالمشاركة في الرّد العسكري. وطبعاً، كما في كلّ مرة، عندما يأتي الرد بقصف مدننا ومطاراتنا ومنشآتنا الحيوية سينسحبون ويسحبون معهم شبكات الدفاع الجوي، ويحسبون علينا كلّ صاروخ ورصاصة نردّ بها على العدوان.

لا أدري إن كانت أميركا وحلفاؤها "هُبْل أم يستهبلون"! ولا أعرف إلى أيّ مدى يتوقّعون ضعف ذاكرتنا وإرادتنا وكرامتنا؛ وإلى أيّ حدّ يتصوّرون قدرتهم على الخداع، وفرض رؤيتهم ومصالحهم على الآخرين.

أياً كانت حالتهم الفكرية والنفسية فقد فاجأهم رفض دول التحالف العربي الانضمام إلى تحالفهم العسكري البحريّ، باستثناء البحرين، التي تستضيف جزيرتها قواعد وغرف عمليات بحرية أميركيّة وبريطانية، ووقّعت أخيراً اتفاقية أمنية مع أميركا يتعذّر معها الرّفض.

ماذا كان قادة واشنطن وأوروبا يتوقعون؟ أن تساند دول الخليج ومصر والأردن حملة عسكرية أميركية مع بريطانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنروج وسيشيل وإسبانيا ضد أشقائهم ودفاعاً عن مجرمة الحرب والإرهاب، إسرائيل، أو أن يأمنوا لمن خانهم وخذلهم وينقلبوا على من تصالحوا معه بعد حرب ثماني سنين؟

المفاجأة الحقيقية حقاً هي تفاجؤ المتفاجئين. ويبدو أن الأيام ستحمل لهم المزيد من مفاجآت لا تسرّ.

@kbatarfi

اقرأ في النهار Premium