دبلوماسية الرياضة سلاح ذو حدين. استخدمها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1971 لفتح كوة في السور الصيني العظيم على يد نخبة من لاعبي تنس الطاولة "بينغ بونغ".
حظيت المواجهات الرياضية بتغطية إعلامية واسعة واهتمام دوليّ كبير، نظراً إلى القطيعة بين البلدين. فقبل تلك اللقاءات لم يكن مسموحاً للمواطن الأميركي بزيارة الصين الشيوعية، ولم يكن هناك تمثيل دبلوماسيّ أو حتى اعتراف، لأن واشنطن كانت تعتبر تايوان "الصين الوطنية" هي الممثل الوحيد للأمة الصينية.
تبع ذلك لقاءات وزيارات مع عراب المصالحة، وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر، ثمّ الزيارة التاريخية للرئيس نيكسون ولقائه بالزعيم ماو تسي عام 1972، والاعتراف بالصين الشيوعية، وسحب الاعتراف من الصين الوطنية، مع بقاء العلاقات التجارية والأمنية مع "تايبه".
لكن الرياضة لم تكن دوماً حمامة سلام؛ فحرب حدودية اشتعلت بين دولتين في جنوب أميركا بسبب مباراةٍ، وخلافات تكرّرت بين دول بسبب تصرّفات الجماهير، وانسحابات حدثت نتيجة لشعارات سياسية استفزازيّة؛ ولعلّ آخرها انسحاب نادي الاتحاد السعودي اعتراضاً على احتفالية قاسم سليماني في ملعب إيراني، واستخدام جماهير النادي الأهلي المصري لمدرجات مباراته الأولى في بطولة كأس العالم للأندية بجدّة لرفع شعارات سياسية تأييداً لغزة وتحطيم كراسٍ واقتحام الملعب.
وما حدث في موسم الرياض أن السعودية استضافت بطلي الدوري والكأس في تركيا، فريقا كرة القدم فنار بخشه وغلطة سراي، لإقامة مباراة السوبر التركي في الرياض، 29 ديسمبر، أسوة ببطولات مماثلة لأندية أوروبية، كالسوبر الإيطالي والسوبر الإسباني.
طالب الجانب التركي برئاسة رئيس اتحاد كرة القدم ورئيسَيّ الناديين بالسماح برفع العلم الوطني واللافتات، التي تحمل شعارات وطنية وسياسية، وصور الزعيم الراحل كمال أتاتورك، وعزف النشيد الوطني قبل المباراة.
وافق الجانب السعودي على رفع الأعلام وعزف النشيد، واعترض على ما عدا ذلك لمعارضتها قوانين الفيفا، التي تمنع تسييس الرياضة. وافق الجانب التركي وتمّ اعتماد محضر الاجتماع.
قبيل بدء المباراة، وبعد اكتمال حضورها وجمهورها واستعداداتها، قرّر الفريقان التركيان الدخول إلى الملعب حاملين صور أتاتورك على قمصانهم، على أن ترفع الجماهير التركية لافتات تحمل عبارات سياسية ووطنية للزعيم أتاتورك مع صوره.
وهكذا عاد الجانبان السعودي والتركي إلى التفاوض من جديد في الساعة الأخيرة، من دون التوصل إلى اتفاق. وعندها، قرّر الضيوف الانسحاب وتأجيل المباراة إلى أجل غير مسمى، فأصدر الطرف السعودي بياناً يفصّل فيه ما حدث، ويأسف لعدم نجاح المناسبة التي كان الهدف منها توثيق الصلات بين بلدين شقيقين، تربطهما أقوى العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية.
أما الجانب التركي فقد شكا من أن البلد المضيف رفض احتفاليّة الفريقين بمئوية الدولة التركية الحديثة، وترك للساسة والجماهير اللعب على أوتار الخلافات التاريخية، والنفخ في نار ما تمّ تجاوزه من أزمات سياسية أدّت في السنوات الأخيرة إلى قطيعة ومقاطعة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي حرص الأتراك على عدم إبلاغه بتطورات الموقف في الساعة الأخيرة، طالب بإقالة رئيس اتحاد كرة القدم التركي لدوره في تعقيد الموقف وخروجه على النص. ولكن هذا التجاوب السريع لاحتواء الأزمة لم يكن كافيا لإطفاء نيران مواقع التواصل الاجتماعي، أو لمنع المعارضة التركية من استغلال الحدث لإحراج الرئيس وحزبه الحاكم، بعد فوزهما في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية 2023.
فالخانة التي أرادوا إيقاعه فيها هي الاختيار بين إثبات علمانيته وتقديسه لأتاتورك، أو إثبات تحيّزه مع العرب والمسلمين ممثلين بالسعودية؛ فإن اختار الأول يكون قد رجّح فساد علاقته مع الرياض، التي عمل جاهداً لإصلاحها، وستتأثر المصالح الاقتصادية الوطنية، ومعها حظوظ ممثلّي حزبه في الانتخابات البلدية بعد شهرين؛ وإن اختار دعم الموقف السعودي لاتهموه بموالاة العرب على حساب بلاده، ولثبّتوا عليه تهمة الإسلاموية ومعاداة العلمانية والقومية التركية ورمزها الأعظم أتاتورك. وفي الحالين، سيتمّ استغلال الموقف ورقة رابحة ضده في الانتخابات المقبلة.
لم أكنّ يوماً احتراماً أو تقديراً للديمقراطية الغربية وفكرة التحزّب للعقيدة والفكرة والعرق على حساب الإجماع الوطني. وما جرى في هذه المناسبة زادني قناعة برداءة منتجات الحكم المستوردة. فالحزبيّ والحركيّ يقدّم مصلحة حزبه على مصالح بلاده، ويستغلّ كلّ الأدوات والفرص المتاحة لضرب منافسيه، حتى ولو ضحّى بالمبدأ والقِيَم والشعب.
السعودية وتركيا جناحا شرق الأمة، ومعاً يمكن أن يشكّلا جسراً عظيماً للتعاون والتكامل والتنمية. ومع أشقائهما في الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي يؤمل ترسيخ تحالف عسكريّ وأمني وسياسي واقتصادي يُعلي مصالح الأمة ويحميها.
وفي تصوّري أن قيادتا البلدين، وعقلاء الشعبين، يدركون ذلك، وماضون إلى تحقيقه مهما حاول المتربّصون. فقبل أيام، سمحت أنقرة بدخول الزائر السعوديّ والخليجي من دون تأشيرة؛ وسمحت الرياض بدخول ضيوفها الأتراك بالتأشيرة الإلكترونية خلال ستين ثانية، كما تم تفعيل الاتفاقيات الاستراتجية الدفاعية والصناعية والتجارية والسياحية بين البلدين ورفع كثيرٍ من القيود والعوائق السابقة.
ستبقى الرياضة جسراً للتواصل، ولكنه ليس الجسر الوحيد. وسيستمر التعاون في هذا الجانب وغيره، ولن يتأثر ذلك بهذا الموقف ومثله. فقدر هذه الأمة واحد، وعدوّها واحد، ومصالحها واحدة؛ ولا بدّ والحال هذه أن تكون سياساتها ومواقفها متّحدة.
@kbatarfi