حسب وثائق كشفت عنها الغارديان البريطانية قبل سنوات، قررت ثلاث عواصم غربية (واشنطن ولندن وباريس) في اجتماع سري، تغيير النظام في طهران. فالإدارات والأحزاب الليبرالية تؤمن بأن "الديموقراطية هي الحل"، والعرش الشاهنشاهي الذي دعمه الإنجليز بعد الحرب العالمية الأولى استنفد دوره، وآن أوان "الثورة" و"التغيير".
مشروع التغيير والتمكين
وبناءً على ذلك استجيب لرسائل الإمام آية الله روح الله الخميني، التي بعث بها للإدارات الديموقراطية في عهد الرئيس كينيدي وكارتر، يطلب فيها الدعم مقابل تعهده بحماية المصالح الأميركية في المنطقة، وتقرر توزيع الأدوار لتمكينه وإزاحة الشاه.
وما تم لاحقاً يثبت صحة هذه المعلومات، فقد استضافت باريس الإمام الخميني وأمّنت له منصّة تواصل مفتوحة ومباشرة مع الشعب الإيراني، مع تيسير وصول وتوزيع شرائط "الكاسيت" لخطبه، وسمحت الاستخبارات الأميركية والبريطانية لأتباعه بالتحرك داخل إيران وفي أوروبا والولايات المتحدة.
وعندما ثار الشعب، منعت الجيش من التحرك ضدها، ودعت الشاه الى الخروج، مع تأمين لجوء سياسي له في أميركا. وهو العهد الذي تراجعت عنه لاحقاً، فدارت به البوصلة حتى استقبله الرئيس المصري أنور السادات، لظروفه الصحية (كان مصاباً بالسرطان)، مع عدم السماح لا بتسليمه ولا بمنحه منصة سياسية أو إعلامية. ودفع السادات الثمن غالياً، حياته، في تحرك دعمته الثورة الإيرانية الإسلامية وسمّت شارعاً رئيسياً في طهران باسم "شهيد خالد اسلامبولي"، الذي قاد عملية اغتيال الرئيس.
التزام، تحايل، ونقض
في المقابل، لم يلتزم قائد الثورة، الإمام الخميني، ببعض تعهداته وتحايل على أخرى، بعد عودته على متن طائرة فرنسية، مصحوباً بساسة وإعلاميين غربيين. بالإضافة إلى دعاية صاخبة في الإعلام الغربي، وتهافت لافت للساسة ورجال المال والأعمال للتقرب من القادة الجدد، طمعاً في المصالح والعقود لدولة نفطية وغازية كبرى، لديها جيش ضارب، ومدنية متقدمة، وموقع استراتيجي. ودعماً للطبقة الفارسية الحاكمة المنتمية للعرق الآري الأبيض.
فقد التزم قائد الثورة بتعهداته بإثارة الزوابع في منطقة الخليج، وهز عروش الحكومات العربية، وعدم المساس بأمن الغرب وإسرائيل، وعدم الدخول في تحالف مع الاتحاد السوفياتي، وحماية الأقليات الدينية اليهودية والمسيحية وحتى الوثنية، باستثناء السنة والعرب والكرد. كما دعم التحالف الغربي في صراعاته مع السوفيات في أفغانستان، ونظام صدام حسين في العراق.
ديموقراطية الملالي
ولكن الإمام الخميني في المقابل، لم يقم نظاماً ديموقراطياً حقيقياً، وتحايل على النص بوضع دستور يعطي كامل الصلاحيات "المعصومة" لشخص واحد، هو المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، ومنح نفسه صفة نائب الإمام الغائب. ومن صلاحياته أن يضع شروطاً على من يحق له الترشح والانتخاب، ويجيز استبعاد من لا يوافق هوى الإمام. ويشمل ذلك القتل الجماعي، بتهم مرسلة، منها "معاداة الله، ومحاربة الإسلام، ومعاداة الثورة، وخيانة النظام". ومثال ذلك إعدام ثلاثين ألف معارض في قرار واحد وقّعه الخميني ونفّذه المدّعي العام للثورة الإسلامية في طهران ورئيس مؤسسة المتابعة والتفتيش العامّة، (الرئيس الحالي) إبراهيم رئيسي، عام 1988.
كذلك تم تجاوز الجيش النظامي بإنشاء ميليشيات تتبع لمكتب المرشد العام للثورة، ممثلة في الحرس الثوري "حراس الثورة"، والباسيج (ميليشيات غير نظامية) ومحاكم ثورية ومؤسسات استخبارية ومؤسسات دينية وسياسية، لا تتبع لرئيس الجمهورية أو الحكومة المنتخبة.
الاقتصاد المقاوم
كذلك أنشئ نظام اقتصادي موازٍ، هو الاقتصاد المقاوم، تعود إليه الزكاة الدينية، التي تمثّل خمس دخل المسلمين الشيعة. ويشمل صناديق وجمعيات خيرية تتبع المرشد نفسه وأركان نظامه والحوزة العلمية في قم ومشهد، والمراقد المقدسة، وغيرها. ويبلغ رأس مال ما يديره الإمام علي خامئني، حسب تقديرات غربية، أكثر من مئتي مليار دولار، لا تخضع للضرائب والمنافسة والقوانين المطبقة على الاستثمارات الخاصة والجمعيات الأهلية الأخرى.
كذلك كان للنظام خروجات عن النص في احتلاله للسفارة الأميركية في طهران (4 نوفمبر 1979 - 20 يناير1981) واحتجازه موظفيها رهائن، واستخدام ذلك في مواصلة تحشيد الجماهير الايرانية والعربية، وتوحيد الصف بصناعة الأعداء. وإن كانت خروجات تكتيكية، باستخدام العملية كورقة تفاوض مع الإدارة الجمهورية القادمة في واشنطن. وهو ما تمّ، بناءً على ذلك حرر الرهائن بعد أيام من تولي الرئيس الجمهوري رونالد ريغان، فقد عقدت صفقة إيران كونترا لدعم طهران ضد العراق في حرب السنوات الثماني بالسلاح وقطع الغيار والمعلومات الاستخبارية عبر إسرائيل.
وتكررت هذه الخروجات لاحقاً بإقامة ميليشيا "حزب الله" في لبنان، ودعم اختطاف الرهائن الغربيين وتفجير الثكنات الأميركية والمشاركة في الحرب الأهلية، وتخريب العملية الديموقراطية الناشئة بعد اتفاقية الطائف (1989). وتكرّر ذلك في العراق على نفس النسق، ثم في سوريا بالتعاون مع الحكم العلوي، وأخيراً في اليمن. وإن فشلت المحاولة في البحرين والسودان ومصر وغيرها من دول "الربيع العربي".
خروج على النص
مشكلة الضباع أنها تستعصي على الترويض التام. فهي ما تمليه عليها طبيعتها. والأنظمة التي بُنيت على التوسّع والعداء والصراع الدائم مع أعداء حقيقيين أو مختلقين، وتلك التي تمثل مصالح طبقة أو فئة معينة، عرقية أو دينية، أو مادية (أو كلها معاً) لا يمكنها أن تتعايش مع العالم من حولها في سلام. فتركيبة النظام نفسه تختل وتنهار عندما تنتهي أسبابها وأهدافها. فكيف سيبرر المتسلط اغتصابه للسلطة، وفرضه لفكره، وفشله في توفير احتياجات رعيته إن غابت الأهداف العليا التي يمثل مرجعيتها؟
راهن الغرب على الثورات في بلاد العرب والعجم، ففشلت جميعها بلا استثناء، وتحولت مع الأيام الى معضلة وعبء على داعميها. وراهنوا على القوميين والعقائدين والعسكر، فحصلوا على بعض ما اتفقوا عليه وخسروا أكثر. واليوم، تبدو ملامح يقظة في العواصم الغربية، بعد انحياز النظام الايراني لأعدائها في موسكو وبكين، وصمود وازدهار شركائها الأكثر اعتمادية في الخليج. وبعد ثورة الشعب الإيراني مرة أخرى، ضد أنظمة فرضها الغرب. وبعد مواصلة طهران الخروج على النص في الملف النووي المهدد لأمن إسرائيل والمصالح الغربية والنظام العالمي الجديد.
تغيير لا تفجير
الخيارات أمام القادة الغربيين أصبحت محدودة، وفي تصوري لا تتجاوز ثلاثة. الأول: أن تدعم الثورة المضادة كما دعمت ثورة الخميني، حتى يسقط النظام أو يتغيّر من داخله. والثاني: أن توجه ضربات جراحية للمواقع النووية والصاروخية والصناعية الحربية، كما يحدث اليوم. وأن تدعم إسرائيل في تحجيمها للميليشيات الإيرانية في محيطها الأمني. والثالثة: أن تشتد العقوبات القانونية والمالية على مؤسسات الدولة والكيانات والأفراد المرتبطة بها وبالأنشطة الإرهابية الدولية، مع مواصلة الدعم للثورة الشعبية.
وخيارات تغيير النظام تميل الى تمكين نظام بديل، أو الجيش، أو شاه جديد. إلا أنها تتفق حتى مع الشركاء في المنطقة واللوبي الإيراني في المهجر، على عدم الرغبة في انهيار مفاجئ للنظام يؤدي الى خلل في المنظومة الأمنية، وتفلّت في الشارع، وصراع دموي (أو نووي) على السلطة والهيمنة الأقليمية.
الدور العربي
وبقدر ما يصعب ضمان الانتقال السلس للسلطة، وتمكين نظام علماني، ديموقراطي، بملكية دستورية، موالٍ للغرب، يستحيل القبول بسيناريو سوري أو ليبي في بلد بحجم إيران وإمكانياتها الجيوسياسية والعسكرية.
ومع قلة الخيارات، تسهل مهمة التحالف الأقليمي والدولي، ويسهل إقناع الدول المؤثرة بقبول خطة تؤدي الى انتقال جذري للنظام الحاكم ينقله الى مؤسسات ومواثيق وتركيبة النظام الدولي الجديد. وما نشهده من تبدلات في المشهد السياسي، وتقاربات بين لاعبيه، ومناورات سياسية، أمنية، عسكرية بين مؤسساته، يشير الى تشكل مشروع جديد، وإعادة توزيع الأدوار، وتأمين اللاعبين. والقوى العربية الرئيسية لن تكون بعيدة عن ذلك التشاور والمشاركة، بعدما أثبتت التجارب السابقة، كغزو أفغانستان والعراق و"الربيع العربي" و"الملف النووي" بدون التنسيق معها فشلها الذريع.
@kbatarfi
أستاذ بجامعة الفيصل