النهار

ولادة معارضة برلمانية في وجه نظام بوليسي؟
غسان صليبي
المصدر: "النهار"
ولادة معارضة برلمانية في وجه نظام بوليسي؟
نداء المعارضة.
A+   A-
علامة الاستفهام في العنوان تطال طرفَي المعادلة: هل نحن نشهد تشكل نظام بوليسي في لبنان وهل نحن أمام ولادة معارضة برلمانية ضده؟

الصراع السياسي الفعلي على أرض الواقع، هو ما يساهم في تكوين "المعارضة". المعارضة يمكن أن تتغيّر، بتغيّر طبيعة النظام الذي يحكم البلاد، والذي يتبلور الصراع السياسي في إطاره. كما يمكن هذا النظام أن يكون مزيجا من أنظمة عدة، متعاونة او متصارعة، ولكل نظام معارضته: مثلا، معارضة للنظام الرأسمالي، معارضة للنظام الطائفي، ومعارضة لنظام آخر من مثل "النظام البوليسي". وتبرز المعارضة الرئيسية، مع تصدّر احد هذه الانظمة، عملية التأثير في مجمل أوضاع البلاد.

شهد لبنان في 27 كانون الثاني 2023، بداية تشكل معارضة نيابية، 42 نائباً من أصل 128. إعلان المعارضة الجديدة، جاء على شكل نداء وجهه النواب المعنيون، من قاعة المجلس النيابي. باستطاعتنا تبيان خصائص هذه المعارضة، من خلال هوية الاطراف المكوّنين لها، كما من خلال المواقف التي تضمنها النداء:

1- الاطراف السياسيون الأساسيون الذين وقّعوا النداء هم: كتلة "القوات اللبنانية" وكتلة نواب التغيير ما عدا نائبتين، وكتلة "الكتائب" وعدد من النواب المستقلّين. مع الإشارة الى ان توقيع النداء لا يزال مفتوحا وقد أضيفت على اللائحة اسماء قليلة، مباشرة بعد صدوره. قوة الدفع الاولى لهذا التحالف جاء نتيجة اعتصام نواب التغيير من أجل انتخاب رئيس للجمهورية، ولحقت بها قوة دفع ثانية، على أثر قرارات النائب العام التمييزي غسان عويدات، الهادفة الى إقصاء القاضي بيطار وتعطيل التحقيق في قضية تفجير المرفأ بشكل نهائي. من الملاحظ أن من قرأ النداء أمام الاعلام، هو أحد نواب التغيير، باعتراف ضمني من التحالف الجديد، بطليعية هؤلاء النواب في الصراع الحالي. رغم ان البعض فسّر ذلك بأن سبب اختيار من قرأ النداء، اي النائب وضاح الصادق، هو كونه سنيا، في وجه عويدات، السني أيضا. كأن لم يكن بالإمكان أن يكون هذا السني من النواب المستقلين مثلا.

التقارب بين نواب التغيير والقوى "السيادية"، لم يكن سهلا. من جهة، رفض معظم نواب التغيير انتخاب مرشح القوى "السيادية" ميشال معوض، ومن جهة ثانية، رفضت القوى "السيادية" الالتحاق الفعلي باعتصام نواب التغيير، بدون تأييد هؤلاء لمرشحها او على الاقل بدون الاتفاق على مرشح واحد. لكن استجواب أهالي ضحايا تفجير المرفأ، قضائيا وامنيا، والمخالفات القانونية لغسان عويدات في حق طارق بيطار، التي يراد لها أن توقف نهائيا التحقيق في قضية المرفأ، قرّبت بين الطرفين. وربما اعتداء مرافقي وزير العدل على نواب من الطرفين رسّخ هذا التقارب بـ"اللحم الحي"، في مكان واحد وفي الوقت نفسه. وهذا ما يقصده الناس عادة عندما يقولون "المصيبة بتجمع". وفي الواقع أن ما يجمع في السياسة ليس فقط البرامج النظرية، بل التجربة النضالية في وجه خصم مشترك.

لافت غياب نواب الحزب التقدمي الاشتراكي عن لائحة موقعي البيان، رغم وجودهم في التحالف الرئاسي الذي يصوّت لميشال معوض الى جانب "القوات" و"الكتائب"، ولافت أيضا دفاع النائب بلال عبدالله من الحزب الاشتراكي، عن القاضي عويدات، ابن مذهبه ومنطقته. ذلك كله بالتزامن مع تكثيف لقاءات جنبلاط مع "حزب الله".

2- التركيبة الطائفية للتحالف المعارض تشير الى اكثرية مسيحية واقلية سنية ودرزيين من خارج الحزب الاشتراكي، مع غياب كامل لنواب شيعة. ان تحليلا سوسيولوجيا يعطي الاهمية للعامل الطائفي في فهم التوجه السياسي للتنظيمات او للتحالفات في لبنان، قد يرى في الامر معارضة مسيحية ضد سلطة مسلمة، مع هيمنة شيعية. وهذا يتقاطع مع الانطباع العام، حول ما آلت اليه الأوضاع السياسية في لبنان. غير أن تحليلا أعمق للواقع العام في البلد، ولأهداف النداء، تسمح بقراءة سياسية للصراع القائم، أبعد من مدلولاته الطائفية، وإن كانت لا تستطيع أن تقفز كليا فوق هذه المدلولات.

3- قام التحالف بين النواب على قضيتين رئيسيتين: تفجير مرفأ بيروت وانتخابات رئاسة الجمهورية. الموقف من قضية تفجير المرفأ تركّز على التمسك بالقاضي بيطار كمحقق في القضية، وادانة ما قام به النائب العام التمييزي في حق المحقق العدلي، والمطالبة بمحاسبته. اما الموقف من انتخابات رئاسة الجمهورية، فقد استند الى المواد الدستورية 49 و74 و75، "التي تنص صراحةً على أنّه متى تخلو سدة الرئاسة يصبح المجلس النيابي هيئة إنتخابية ملتئمة بشكلٍ دائم من أجل انتخاب رئيس للجمهورية، بدورات متتالية بشكلٍ متواصل دون انقطاع حتى تحقيق هذه الغاية، ولا يحق للمجلس القيام بأيّ عملٍ سواه". بعض نواب التغيير (قعقور وزرازير) وبعض النواب المستقلين (سعد والبزري) دعموا هاتين القضيتين، لكنهم لم يوقّعوا النداء المشترك. تراوحت الأسباب بين عدم الاقتناع ببعض ما جاء في النداء او عدم الرغبة في التحالف مع بعض الاطراف السياسيين موقّعي النداء، من مثل "القوات" و"الكتائب".

4- وصف النواب الموقعون، ما يحصل على مستوى القضاء، بـ"الانقلاب"، الذي يهدف من بين ما يهدف اليه، الى "تكريس سطوة نظام بوليسي مقيت". هناك إذاً اقتناع عند النواب الموقعين، بأن البلاد هي تحت سطوة نظام بوليسي، يحاول تكريس هيمنته عبر القضاء.
في العادة يجري استخدام مصطلح "الدولة البوليسية" وليس "النظام البوليسي"، مقابل مصطلح "دولة القانون". على الارجح وجد النواب في كلمة نظام ما يتناسب أكثر مع الواقع اللبناني حيث هناك غياب للدولة.

كثر الكلام عن "النظام البوليسي"، في السنوات الأخيرة من عهد ميشال عون، بعد تزايد الادعاءات على الصحافيين والكتاب، بسبب آرائهم. وفي الآونة الاخيرة، وبعد اعتقال وليم نون والتحقيق معه ومع عدد من أهالي ضحايا المرفأ، بتنسيق كامل بين بعض القوى الأمنية وبعض القضاة، وبعد اعتداء مرافقي وزير العدل الامنيين، على نواب زاروه في مكتبه، بدأت تتبلور أكثر فأكثر ملامح لنظام اطلق عليه نواب ومواطنون، تسمية "النظام البوليسي".
جرى تحديد عناصر النظام البوليسي عالميا، من خلال تجارب حكم الدولة البوليسية في العديد من البلدان وفي حقبات تاريخية مختلفة. من أهم هذه العناصر:

- الحكومة او السلطة تمارس إجراءات قمعية ضد شعبها، في مجال الحريات والحقوق، بالاستناد الى قانون ظالم احيانا او من خلال مخالفة القوانين في معظم الأحيان.
- قوى الأمن تتمتع بصلاحيات واسعة ولا تطالها المحاسبة، وتمارس في معظم الاحيان، سلطة امر واقع وليس سلطة قانون.
- قوى الأمن تخدم السلطة السياسية وليس الدولة، وفي بعض البلدان تكون السلطة السياسية مجرد غطاء للسلطة الأمنية.
- السلطة السياسية تهيمن على السلطة القضائية وتستخدمها لصالحها.
- السلطة السياسية او الأمنية او الاثنتان معا تسيطران على المؤسسات الاقتصادية والاعلامية.
- في مرحلة متقدمة من حكم الدولة البوليسية، يتحول المواطنون انفسهم إلى رجال امن بعضهم ضد بعض.

توفر معظم هذه العناصر، في عدد كبير من البلدان العربية، المجاورة او البعيدة، التي عُرفت بنظامها البوليسي. اما في لبنان، فلم يعرف تاريخه حكما بوليسيا بالمعنى المتعارف عليه. في فترة الحكم الشهابي، انتقِدَت ممارسات "المكتب الثاني"، لكن في غياب معظم العناصر في النظام البوليسي، ولا سيما على مستوى احترام القانون. وفي حقبة الوصاية السورية، جرى الكلام عن "النظام الأمني اللبناني-السوري"، كحاكم فعلي على المستويات كافة.
يمكننا تقديم الملاحظات الاتية حول ملامح للنظام "البوليسي" في لبنان اليوم:

- باعتراف غسان عويدات نفسه، "البلاد أصبحت بلا قانون"، كما انه يجري انتهاك الدستور والقوانين بشكل فاضح، من أركان السلطة السياسية، مع اتساع التعدي على الحريات الفكرية والاعلامية والنقابية والشخصية.
- يؤمّن نظام المحاصصة الطائفية هيمنة السلطة السياسية على مختلف الأجهزة الأمنية وعلى القضاء. وإذا كانت هذه الهيمنة تأخذ طابعا لامركزيا، بحيث تتوزع على مجموعة من مراكز النفوذ، الا ان هيمنة "حزب الله"، على جميع هذه المراكز، يوحّد بين هذه المراكز في إطار مركزي، كما هي الحال في الانظمة البوليسية. لكن هيمنة "حزب الله" هذه، بما هي في الاساس عسكرية، تجعل "الامني" يسيطر على "السياسي"، تماما كما في الانظمة البوليسية العريقة.

- هيمنة السلطة السياسية على الاقتصاد تتم تدريجيا. ففي حين كانت قوى المال والسلطة، تتعاون في السابق في رسم السياسات، مشكّلة ما يسمّيه البعض بـ"الاوليغارشية الحاكمة"، ساهم الانهيار الاقتصادي والمالي من جهة، وترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل من جهة ثانية، في تقوية موقع السلطة السياسية داخل هذه "الاوليغارشية". ومن المتوقع أن تزداد هيمنة العنصر السياسي- الأمني على الاقتصادي، من خلال انخراط "حزب الله" بقوة في عملية ترسيم الحدود، والبدء باستثمار الثروة المائية، في إطار نظام ريعي، على شاكلة البلدان الخليجية. وفي حال انشاء "الصندوق السيادي"، أكان بغرض إدارة مداخيل الثروة المائية، او بغرض معالجة الخسائر المالية التي تسبب بها الانهيار، سيجري تكريس الهيمنة السياسية- الأمنية على الاقتصاد، مؤسساتيا.

إن مزاوجة الدفاع عن العدالة من جهة، والدفاع عن الدستور والديموقرطية من جهة ثانية، في نداء النواب، هو الموقف الأكثر ملاءمة للتصدي للنظام البوليسي الذي يرسّخ قواعده بوتيرة متسارعة. وهذا ما يعطي المعارضة المتشكلة حديثا، صدقية نضالية. لكن ليس معروفا بعد، اذا كانت هذه المعارضة ستحافظ على وحدتها وعلى زخمها، في ظل العناصر الطائفية التي تحملها في تركيبتها، او في ظل الخلافات الفكرية او الايديولوجية التي ظهرت سابقا بين أطرافها. مع العلم انه من المفترض أن تقلّص مواجهة النظام البوليسي المدعوم من جهة خارجية والمسيطر على السياسة والاقتصاد في آن واحد، اسس الخلافات بين من ينادي بـ"السيادة" ومن يضع في اولوياته، الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

اقرأ في النهار Premium