نعود الى الأسئلة المطروحة حول الاتفاق السعودي الايراني، التي أجبنا عن بعضها في المقالين السابقين، لنجيب عن التساؤل حول هوية صاحب القرار، هل هو السيد علي خامئني، المرشد الأعلى، الذي يملك مفاتيح السلطة في بلاده؟ أم الحكومة، التي كأي حكومة قبلها، توقع على اتفاق مع القوى العظمى، والأمم المتحدة، وتقبل بتطبيق قرارات مجلس الأمن على الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي، وتحصل على فوائد الاتفاق، ثم تنقلب عليه، عندما تتعارض إرادتها مع الإرادة العليا؟
وما موقف الحرس الثوري والقوى المتطرفة والجماهير المؤمنة التي تدين بالولاء والطاعة للإمام المعصوم، نائب الإمام الغائب، والتي خربت وعطلت وأعطبت اتفاقات سابقة، أممية، وثنائية مع السعودية كالاتفاق الشامل في 1998 والأمني في 2001؟
الإرادة المعصومة
الإجابة عن هذا السؤال العريض، نعم عريض. فصاحب القرار هو صاحب الإرادة، وأمره مطاع عند كل من ينتمي إليه ويواليه ويطيعه بلا أدنى شك أو تردد. قرار كهذا لا تتخذه حكومة أو برلمان، ولا ترفع به وزارة خارجية.
ولهذا وقع الاختيار – من طرفي الاتفاق – على مفاوض قوي، وشخصية مقربة من الإمام، وهو علي شمخاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي شغل منصب وزير الدفاع من 1997 حتى 2005، بشخصيته الأمنية والعسكرية، وعرقه العربي وثقافته العربية.
أيتام الوفاق
والسؤال الذي لا يقل أهمية، يدور حول الساحات والجماعات التي ستتأثر حتماً بأي توافق بين أعظم قوتين في المنطقة، السعودية وإيران. فمن الواضح من ردود الفعل وتخبّطات الخطاب الإعلامي لهذه القوى أن الاتفاق كان نازلة لم يحسبوا لها حساباً. فكل المؤشرات السابقة كانت توحي بتباعد المسافات وغياب التوافقات.
والميليشيات والأحزاب التي تشكلت لهدف واحد ومهمة واحدة، مواجهة خصوم إيران، داخل وخارج حدود الدولة الوطنية، والتي زودتها طهران بفائض القوة السياسية والعسكرية والاستخباراتية والأمنية، ووفرت لها ما تحتاج إليه من سلاح ومال ونفوذ. هذه القوى ستصبح بلا شعار ولا مشروع ولا أنياب بعد الاعتراف بإسرائيل، والتوافق مع دول الخليج والرضوخ لمطالب القوى العظمى والمجتمع الدولي في ما يتعلق بالبرامج العسكرية والعلاقات العضوية مع الجماعات الإرهابية، والتدخلات السياسية والأمنية في المنطقة العربية.
المشروع الإمبريالي
إذن، وهذا سؤال وجيه، بغياب المهمة والهدف في المرحلة الآنية، والمصلحة الاستراتجية، على المدى المنظور، هل ستواصل إيران تمويلها السخيّ ودعمها السياسي والاستخباراتي والعقدي لأحزابها وأتباعها، حفاظاً على نفوذها الديبلوماسي، ومصالحها البينية، وتحسّباً لاحتياجاتها المستقبلية وخططها المبيّتة؟ أم تتركهم لقدراتهم المكتسبة ومواردهم الذاتية يشقون طريقهم بأيديهم ويصنعون مكانتهم بأنفسهم؟
في تصوّري، إن إيران الإمبراطورية، وإيران التاريخ، وإيران العقيدة، لن تتخلى عن مشروعها الأبدي في التوسع والهيمنة ونشر المذهب وتمكين الطائفة. فوراء هذا المشروع قناعات إيمانية ومرارات تاريخية ومخططات أزلية.
الظاهر والمستتر
إلا أنها، على الأقل في المرحلة الحالية، ستوقف الظاهر من النيّات والسياسات المرفوضة في الداخل والخارج، والتي أدّت الى طرق مسدودة واضطرابات وطنية وصدامات خارجية وإفلاس وعزلة. وستمضي على جلّ ما تتفق عليه، مع بعض التحايل و الخروقات، والحفاظ على الحد الأدنى من الصلات بمواليها في الخارج، مع توفير الدعم لهم للصمود وتحقيق الذات.
وستعمل في نفس الوقت على إصلاح البيت الداخلي، وترميم الجسور مع الجيران، وخفض سقف التصعيد مع القوى العظمى. وقد تمتد الهدنة سنوات حتى تتمكّن من تحقيق الاستقرار وتمكين الدولة وتسكين الثورات وحل المعضلات الاقتصادية والإدارية والإنمائية. وبعدها ... يكون لكل حادث حديث.
إيران وجيل الألفية
إلا أن قطار التاريخ لن يتوقف بانتظار هذه اللحظة، فقوافل التنمية والتطوّر تتسارع في الدول المجاورة، وفائض القوة الخليجية يبني كل يوم قلعة في مشروع السور العظيم. والمسافة التي قطعها الجيران، والتي ضاعفتها أربعة عقود من الهدر والتراجع، تزاداد كل عام مع الرؤى والخطط التنموية الطموحة.
وعندما يقرّر صانع القرار في طهران أن الوقت قد حان لاستعادة زخم المشروع الإمبريالي، يكون جيل الألفية قد تمكن وتلهّف للحاق بالقطار السريع الذي سبقتهم إليه شعوب المنطقة. ولا عودة عند أبناء المستقبل لأوهام الماضي وأشلاء مشروعه المهزوم.
المشهد العربي
وأخيراً، يبقى السؤال الأوسع: هل ستتغيّر إيران حقاً، وتتحوّل الى دولة مدنية، وجارة مسالمة، وشريك تنمية؟ وهل يعني ذلك، في نهاية المطاف، انسحابها العسكري والاستخباري والميليشياوي والعقائدي من الداخل العربي، ولو تدريجاً؟
هل سيتلاشى وجودها في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن؟ أم تحافظ على العلاقات الخاصة بدون التدخلات المباشرة؟ والى أي مدى سيؤثر ذلك على الساحة السياسية والأحوال الاقتصادية والمعيشية والعلاقات الخارجية لهذه البلدان؟
أسباب التغيير
أحياناً تكون الإجابة عن أسئلة الحاضر أصعب منها عن أسئلة المستقبل! ومع ذلك تبدو ملامح التغيير مبشّرة، ويسهل تفسير أسبابها. فالخزينة الإيرانية لم تعد تستطيع اليوم مواصلة الإنفاق على الأتباع والموالي فيما يتضوّر أهل الدار جوعاً. والصراعات مع المحيط الممتدّ من بلوشستان وأفغانستان الى أذربيجان وكردستان، والمواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وحلفائهما. وثورة الحرية المستمرة منذ شهور بلا نهاية منظورة.
والقائمة تشمل الصراعات مع الجيران العرب، والرفض من الشعوب العربية، والتمرّد حتى من الطائفة الموالية. والعقوبات الاقتصادية الدولية الخانقة، والتهديد بضربات قاصمة للمشروع النووي، والخلافات البينية المستعرة بين الميليشيات العربية، والتدافع على السلطة بين مراكز القوى الإيرانية، والتذمّر المتصاعد من البلدان العربية المستعمرة.
كل هذه أسباب منطقية كافية تدفع بسادة طهران للبحث عن مخرج وخلاص. وباب يفتحه الاتفاق مع أكبر دول المنطقة وأغناها قد يشكل طوق النجاة المرتجى، ليس فقط مع البلدان، ولكن أيضاً من خلالها الى العالم بأسره. ومهما كان الثمن الذي ستدفعه اليوم لتحقيق هذا الاختراق للحصار الخانق، فسيكون أهون بكثير من الموت البطيء أو الانهيار المفاجئ.
تصفير أم خفض
الى أيّ حدّ ستذهب إيران لتصفير المشاكل مع العرب، إذن؟ لا أعتقد أن القرار وصل الى حد التفاصيل. لكنه، باعتقادي، قد لا يذهب الى ما ذهبت إليه تركيا من مسافة. فتركيا، رغم كل شيء، لم تصنع ما صنعته إيران، كمّاً وعمراً. وتركت دوماً خطّ رجعة.
وليس سهلاً على من أنفق في أربعة وأربعين عاماً مئات المليارات ومئات آلاف الأرواح لتحقيق حلم تاريخي عظيم، وتصفية حسابات عمرها عشرات القرون، أن يدفن مشروعه كله، الى الأبد. لذا علينا أن نتأهّب لمراجعات جزئية، وتراجعات مرحلية، ومصالحات ثنائية لا تحقق كل الوعود ولا تلبّي كل المطالب. وأن نتسلح بسياسة "خذ وطالب" التي نصح بها الملك عبد العزيز الثائر الحبيب بورقيبة ورفاقه في التعامل مع المستعمر. وأن نسعى لتحقيق ما لم يعطَ لنا بإرادتنا، فـ"ما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا".
* أستاذ بجامعة الفيصل
@kbatarfi