لمناصري "حزب الله" على مواقع التواصل الاجتماعي شخصية نمطية في الغالب، مبينة على التخوين والاستهزاء بالآخرين. مناصرو الحزب هؤلاء لا يتناقشون ولا يتحاورون، فهم دائماً يمتلكون الحقيقة الكاملة، فيمضون في مراقبة حسابات ونشاطات اللبنانيين الآخرين، ولعب دور المطاوعة، أو الشرطة الوطنية التي تحاسب كل من يكتب أفكاراً يعتقدونها تتعارض مع الشرف اللبناني والكرامة والعنفوان، وهي مفاهيم لا قياس مادي لها.
يحدّدها "حزب الله" نفسه، ويعلن أن الخروج عنها هو أسوا من الكفر بالدين أو بالذات الالهية، مع أن كتاب المسلمين نفسه يجيز الكفر بقوله "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". أما الحزب وأتباعه، فيتبنّون مقولة الفلسطيني الراحل أبو أياد، الذي كتب "أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر"، أي أن كل وجهة نظر لا تؤيد تحرير كامل التراب الفلسطيني هي خيانة.
للإنصاف، لم يبدأ قمع الحرية والرأي الآخر مع أبو أياد، بل كان سبق له أن تجلى في الثقافة العربية التي برزت أثناء تعاطي العرب مع الأزمة الفلسطينية في سنيها الأولى نهاية الأربعينات، خصوصا في قرارات جامعة الدول العربية لمقاطعة إسرائيل، وهو في جزء قطع العلاقات وعدم التعامل الرسمي معها مفهوم.
وللمقارنة، يمكن النظر الى علاقة العداء بين الولايات المتحدة وإيران، حيث تمنع واشنطن أي تعاملات رسمية أو تجارية مع حكومة إيران أو مؤسساتها، ولكن يمكن لأي مواطن أميركي يحصل على تأشيرة دخول إيرانية السفر الى الجمهورية الإسلامية، وحتى الإقامة فيها، ومن يعرف العاصمة الأميركية، يعلم أنها تعجّ بأميركيين ممن يطالبون، ليل نهار، بانهاء فوري وغير مشروط للقطيعة الأميركية مع إيران، من دون أن يخشى هؤلاء الأميركيون اتهام مواطنيهم لهم بالخيانة. والخيانة في المفهوم الأميركي جريمة تستوجب العقاب، لكن الخيانة لا تعني تبني رأي يخالف رأي الغالبية أو الدولة، بل تعني القيام بأعمال تجسسية على الدولة الأميركية لمصلحة حكومات أو جهات أجنبية. كل ما عدا الجاسوسية وسرقة أسرار الدولة مسموح به في بلد الحريات أميركا.
"حزب الله" ومحوره المقاوم وأنصاره لا يفقهون معنى الحرية، بل هم يستخفون بها، ويتصورونها فكرة غربية غريبة على المجتمعات العربية والإسلامية، ويعتقدون أن أميركا تعلن الحرية فيما هي تمارس معايير مزدوجة بمنعها التعبير عن أفكار ما، وهذا غير صحيح، إذ أن بين الأميركيين من يشكك بالمحرقة اليهودية، وفي أميركا حزب نازي، كما في الولايات المتحدة من يناصر "حزب الل" نفسه والإسلام السياسي بشكل عام، وكل هؤلاء يتمتعون بحصانة حرية التعبير. ما تحظره الولايات المتحدة هو عمل مؤسسات الدعاية التابعة لروسيا أو إيران، مثلا، على الأراضي الأميركية.
وحسب معايير أنصار "حزب الله"، هوية الشخص تفرض رأيه. مثلاً، لأن اسمي يعكس طائفتي الشيعية، يعترض مناصرو الحزب على مواقفي المعارضة لسياسة إيران و"حزب الله" وتأييد مسار السلام. يردد مناصرو الحزب أن عليّ "تغيير إسمي" لأنه لا يتناسب ومواقفي، اذ هم يتصورون أن آراء الناس هي امتداد لهويتهم، لا لتفكيرهم ورؤيتهم للأمور وتجاربهم.
ولأن مواقف الأشخاص تكون حسب هوياتهم، يطالبني مناصرو "حزب الله" أما بتغيير إسمي، أو يتهمونني بأني "مسلم عربي متصهين"، أو بكلام آخر خائن للقبيلة التي انحدر منها. بمثل هذا التفكير البدائي يدير "محور المقاومة" نقاشاته.
ومناصرو "حزب الله" على مواقع التواصل ليسوا حسابات فردية، بل جنود في ماكينة التعبئة الإعلامية، وبينهم ما يمكن وصفهم بالضباط، وهؤلاء عادة من الصحافيين أو الوجوه المعروفة، ويقومون بالسخرية ممن يعارضون "حزب الله"، ويضمنون تغريداتهم إشارات متفق عليها، مثل علامة تعجب حمراء اللون، في نصّ التغريدة. وفي غضون ساعات، يعيد نشر التغريدة مئات بل آلاف الحسابات المؤيدة للحزب، وجلّ هذه الحسابات لا هوية واضحة لها، فقط صورة أسد أو دبابة أو راية كربلائية مع اسماء مثل أبو علي أو زهراء.
الأنظمة العقائدية الشمولية، مثل جمهورية إيران الإسلامية و"حزب الله"، لا تناقش، بل تفرض ماكينات الدعاية التابعة لها وجهات نظر ثابتة. وماكينات الدعاية هذه يسميها "حزب الله" إعلامية، ولكنها ليست إعلاما حرا، بل من أدوات المواجهة، لذا اسمها "التعبئة الإعلامية"، على غرار "التعبئة الطلابية" وباقي الأجنحة التابعة للحزب.
ولأن في نموذج إيران و"حزب الله"، يلعب المثقف دور الجندي المأمور، تتخيّل جماعة إيران والحزب كل مثقفي العالم وصحافييه على هذا الشكل، لذا، لا يؤمن "محور المقاومة" بوجود رأي مستقل، بل يرى أن كل الناس مرتزقة ومدفوعة الأجر في كل آرائها ومواقفها.
وليس هدف نشاط مناصري "المقاومة" على مواقع التواصل الاجتماعي نشر فكر أو برنامج سياسي، ولا الانخراط في نقاشات فكرية أو سياسية، بل أن هدف هؤلاء هو المواجهة، وفرض وجهة النظر التي لا تقبل النقاش. للإنصاف، توافق إيران و"حزب الله" على نقاشات حول السياسات المحلية والبلديات، ولكنها تعتبر السياسة الخارجية ثوابت لا نقاش فيها، تحت طائلة التخوين.
وكان أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله ردد — في أكثر من خطاب توجه فيه الى تحالف ١٤ آذار على إثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري — القول "انتم اهتموا بالإنماء والإعمار ونحن نهتم بالمقاومة"، بما في ذلك السياسات الأمنية والدفاعية والخارجية. السيد نصرالله يريد لبنان على شكل إيران، حكومة منتخبة على مستوى بلدية، تدير شؤون الناس بما تيسر و"تحمي ظهر المقاومة"، فيما يلعب هو وحزبه دور خامنئي و"الحرس الثوري" الإيراني في رسم السياسات الخارجية والعسكرية، بما فيها الحروب والمواجهات، وكأن سياسات الدول الداخلية يمكن فصلها عن الخارجية.
وللإنصاف أيضاً، في الحوارات الشخصية والخاصة، يبدي مناصرو "حزب الله" صدقاً ينفردون به عن حلفائهم. على أن المشكلة هنا تكمن في أن في كل مرة فتحنا أنا وأحد مناصري الحزب حواراً ثنائياً، انتهى بالقداسة والماورائيات. في مرة، صارحت مناصر لـ"حزب الله" بالقول أن سياسة العرب تجاه إسرائيل يجب أن تحتسب التكلفة البشرية والمالية لاقتلاع إسرائيل واستعادة فلسطين، فإن تبين أن قبولنا بدولة صهيونية يتطلب تكلفة أقل، ويعود علينا وعلى الفلسطينيين بمنافع أكثر، فما هدف الإصرار على الطريق الأصعب؟ الهدف، في رأيي، هو الحياة والرفاه للعرب والفلسطينيين، فان تحقق ذلك بدون أرض.