د. ناصر زيدان
قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ: إن قمة مدريد التي جمعت قادة الحلف إضافة الى عشرة رؤساء دول صديقة؛ تُعدّ تاريخية بكل المقاييس، وقد أقرَّت برنامجاً تسليحياً هو الأهم منذ ما يزيد عن 30 سنة. والقمّة حدّدت الخطوط العامة لسياسة الحلف في السنوات المقبلة، معتبرةً أن روسيا هي مصدر التهديد الأكبر، طاويةً صفحة بيان قمّة لشبونة لعام 2010 الذي اعتبر روسيا دولة صديقة، وليست عدوة للحلف. كذلك وجَّه بيان قمة مدريد 2022 عبارات لاذعة ضد الصين، وقال إنها مصدر تهديد للنظام العالمي، وتقوم بأنشطة شيطانية تهدّد الدول الحليفة. ولولا اعتراض الأوروبيين على الصيغة التي اقترحتها الولايات المتحدة الأميركية؛ لكانت الأبواب أُوصدت نهائياً بين دول الحلف والصين.
مع هذه التوجّهات الراديكالية التي اعتمدها حلف الناتو، تكون عدّة المواجهة الدولية قد اكتملت فصولاً، وخريطة فرز القوى الدولية توضَّحت، ورست على معسكرين كبيرين، يضم الأول الدول الغربية مع اليابان وكوريا الجنوبية وتقوده الولايات المتحدة الأميركية، وتقود روسيا المحور الثاني، ومن خلفها الصين التي قد تزيدها تأثيراً في عناصر القوة، ولا سيما في المجال التقني والاقتصادي، ومعهما مجموعة من الدول الصغيرة. وتقف دول عديدة على جوانب الصراع، حائرة، أو مكبّلة، تتطلع الى تأسيس ما يُشبه "مجموعة عدم الانحياز" السابقة، التي انطلقت من باندونغ في عام 1955، وتزعّمها الرئيس الهندي جواهر لال نهرو والرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس يوغسلافيا السابقة جوزيف تيتو.
لا يمكن اعتبار إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن نشر ما يقارب 100 ألف جندي أميركي في القارة الأوروبية مسألة عادية، خصوصاً لكون هذا الحشد المعزز بأحدث الأسلحة يترافق مع رفع مجموع قوات حلف الناتو في الدول القريبة من روسيا الى ما يزيد عن 300 ألف جندي. وزيادة الموازنات الدفاعية في دول الحلف قرار جديد يخفي محاذير كبيرة، وما إعلان ألمانيا عن البدء بتأسيس أكبر جيش تقليدي في أوروبا، إلّا تعبير واضح عن جدّية المواجهة، وألمانيا كانت قد استرخت عسكرياً لما يزيد عن خمسة وسبعين عاماً، بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية.
الرد الروسي على توجّهات قمة مدريد لم يتأخر؛ فقد أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن بلاده ستردّ إذا أقام حلف الناتو بنية تحتية عسكرية في فنلندا والسويد، وهما الدولتان القريبتان من روسيا، ولديهما حدود مشتركة معها تزيد عن 1300 كلم، وحلف الناتو قبل عضويتهما بعد أن ذلَّلت واشنطن العقبات التي كانت تعترض دخولهما، ولا سيما سحب الاعتراض التركي على هذه العضوية. أما الرد الصيني الذي استخدم عبارات أقل حدّة، فقد كان واضحاً في قول الناطق بلسان الخارجية "إن الزمن الذي تتحكم فيه دول قليلة بمصير العالم قد ولّى".
الحرب في أوكرانيا، واستقلال تايوان عن الصين، وملفات النفط والغاز والمواد الغذائية؛ أبرز نقاط الخلاف بين المحورين الدوليين، وتتفرع عنها أزمات إقليمية حادة، خصوصاً ملف كوريا الشمالية كدولة نووية، وقضيّة التمرُّد النووي الإيراني.
البابا فرنسيس قال لجريدة لاسيلفتا كاتوليكا الإيطالية: "إن الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل، وربما هناك مَن خطط لافتعال الأزمة الأوكرانية للوصول الى هذه الوضعية".
مع اكتمال عدة المواجهة الباردة – أو الساخنة – القائمة، يتبيّن بوضوح أن العالم أمام تحدّيات جديدة، ومخاطر اندلاع توترات عسكرية خارج المدى الأوكراني قائمة، والعوامل الناتجة عن العقوبات المفروضة على روسيا، كما الإجراءات النفطية والغازية التي تتخذها هذه الأخيرة ضد الدول الأوروبية، تُنذر بتفاقم الأزمة، وتهدّد بنشوء نزاعات جانبية بالغة الخطورة.
منع سلطات ليتوانيا العضوة في حلف الناتو قاطرات سكك الحديد من إيصال البضائع الى موانئ "جيب كالينينغراد" الروسي عبر أراضيها، التزاماً بالعقوبات الغربية المفروضة على الصادرات الروسية؛ قد يؤدّي الى اتخاذ إجراءات عسكرية روسية وبيلاروسية ضد ليتوانيا، وهو سيقود الى توسيع بؤرة التوتر بطبيعة الحال. كما أن العمليات الروسية التي تستهدف قوافل المساعدات العسكرية وغير العسكرية التي تقدّمها الدول الغربية للحكومة الأوكرانية، ربما تكون سبباً لاندلاع مواجهات غير منتظرة.
وعلى الضفة الأخرى من الصراع؛ فإن حالة اللااستقرار التي تعيشها منطقة شرق آسيا، خصوصاً حول ما يجري في محيط تايوان، وانطلاقاً من الاستفزازات التي تقوم بها كوريا الشمالية بإطلاقها تجارب صاروخية باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية؛ كل ذلك يؤكد أن منسوب التوتر الدولي يتزايد، واحتمالات وقوع مواجهات فرضية واقعية لا يمكن استبعادها.
من الواضح أن المزاج الدولي العام الذي كان قائماً على شيء من التعاون منذ ما يقارب 30 سنة قد تغيّر، والمُناكفات بين الدول الكبرى بالواسطة قد تراجعت لمصلحة مقاربة جديدة أكثر وضوحاً، ودخلت التحديات بين المعسكرين الى ساحة الميدان القريبة.
لا يمكن الاستخفاف بهذا الحشد الكبير الذي ولَّفته الدول الغربية في مواجهة روسيا بعد غزوها لأوكرانيا. بالمقابل فإن شيئاً من التوازن الاستراتيجي قد تتمكّن روسيا ومعها الصين وبعض الأصدقاء الآخرين من تحقيقه بوجههم، ومن الخطأ إغفال تأثير العامل النووي في هذا السياق.