النهار

ذا لاين... التنظيم المُدني في مشهد الرؤية
المصدر: النهار
ذا لاين... التنظيم المُدني في مشهد الرؤية
ذا لاين. (تعبيرية).
A+   A-


دكتورة سابين الكك*

 

المشهد في الاصطلاح اللغوي هو "المَجمع من الناس(...)" ولا يراد بهذه الكلمة، الفضاء الخالي، لأن الناس هم من يمنحون المكان حيويته ووجوده، فيمتلئ بما يحملونه من أحداث جديدة وقديمة.

يروي الأمير محمد بن سلمان مملكة 2030 في مشاهد موسومة بالانفتاح حيث السلوك الإنساني يشغل الحيّز المتحرك، والجانب الحاسم يتركز على الفعل لا القول.

رؤية مستقبلية تعج بتاريخ من الفخر والاعتزاز، فتذوّق المجتمع السعودي من جمالياتها السردية، واحتضنها كأداةٍ وطنية تحتزن مدلولاته التراثية وها هو يتوق إلى تحقيقها كحلمٍ قومي يكتنز ثورة الذكاء الاصطناعي.

 

المدلولات الحضرية بين المبدع والمتلقي

ثلاثة مفاهيم رئيسية يثيرها النسيج الحضري لمدينة ذا لاين؛ العمران العصري الذي يتحكّم بالمساحة عبر الزمن، وإعادة إنتاج المدينة على شكل خطٍّ مستقيم، وتطوير جودة العيش المُدني من عمق الأرض. تصميمٌ، عَكَس عقارب الزمان، وسَبَر أغوار المكان، وانتفض على ثوابت الأشكال... مما دفعنا للتساؤل: هل نحن في رحلة اكتشاف مخططات مدينةٍ مستقبلية أم نحن فقط، نتفاعل مع مواقع بناءٍ ستبقى افتراضية بحتة؟!

نقدّم، عن عمد، محاكاةً حقوقية نقدية، متحيّزة، وجدليّة... انسجاماً، مع عوامل المتعة، والمفاجأة، والدهشة التي رافقت حملة إطلاق ذا لاين بإيحاءاتها البصرية كرؤى يحركّها مختبر هندسات معمارية. مشهديةٌ، جعلت المدينة نفسها مرئيّة لنفسها، في تحوّلٍ عمراني وترقٍّ حضري يتقاطع مع الثورة الرقمية عند منعطف تاريخي.

 

هذه التطلّعات البصريّة التي استنبطنا منها وصف التخطيط العمراني بالخيالي أيقظت وَعينا كمتخصّصين، لإعادة اكتشاف أهمّية النسيج الحضري وتوقّع متغيّرات الأداء القانوني العام المبنيّ على ثلاثة افتراضات:

 

الحوكمة الحضرية The Urban Governance          

الفضاء العام                            The Public Space                                                           

عصر البيانات الضخمة The Era of Big data             

 

الحوكمة الحضرية؛ نظام قانوني ثلاثي الأبعاد

 

تُردِّد الرؤى الأولى لمدينة  ذا لاين صدى "مجتمع عصري صديق" يقوم على صلة وطيدة بين الحوكمة المحلية وتفعيل النشاطات الاجتماعية والإنسانية. من هنا، ستتركّز التحدّيات التشريعية باتجاه خلق بيئة قانونية ناظمة، تؤهّل لمجتمع متناغم، وتستجيب لمبادئ التنمية الحضرية المستدامة دون أن تبقى، بصمة تجميلية خارجية لنوعية الحياة فتقتصر على مضاعفة "اللحظات الحضرية السعيدة".

على هذا النحو، يثار التحدّي القانوني الأبرز في ذا لاين من زاوية صياغة تنظيم مُدني ثلاثي الأبعاد؛ مرن، استراتيجي، تكتيكي - يضمن تحقيق مستويات متقدّمة للسياسات العامة سواء المعمارية، أو الجمالية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو البيئية، أو الرقمية.

 

في هذا السياق، تستلزم سمات الحوكمة المدينية في ذا لاين تعبئة المقيمين الملتزمين بالمصلحة العامة حفاظاً على بيئتهم المعيشية المتميزة، وتحفيز التمويل المشترك بين القطاعين العام والخاص بهدف زيادة الإمكانيات الإنتاجية على المساحة الإقليمية.

 

وبالتالي، إن نظام الحوكمة لا بدّ أن يحمل الزوايا الثلاث لمدينة؛ تبقى الحدث، تجعل من الخيال سبباً للتجدّد المتحرّك، وتُحوِّل التدخّلات المعاكسة قشوراً سريعة الزوال.

 

البعد القانوني الحاسم للفضاء العام

 

أكّدت المحفّزات البصرية للتصميم الهندسي أن خلف ذا لاين أيديولوجيا رصينة مصحوبة بذوقٍ لمجتمع متقدّم.

بالتالي، نتوقع أن تختصر ذا لاين؛ مستهدفات مترابطة إنسانياً ومتوازنة بيئياً، حيث الفضاء العام ليس محرّكاً ثانوياً، بل النواة المركزية والمحورية، بما أن ترابط المكوّنات بفضل الأدوات الرقمية يجعل التكثيف في النسيج المديني ذا أهمية حاسمة.

 

لا يخفى أن سبك المدن الذكيّة ليس عبارة عن صناعة تقنية وتكنولوجية، بل هو أيضاً، وقبل كل شيء، إرادة سياسية وإدارة مجتمعية. فما نعنيه تحديداً بالفضاء العام ليس المعنى المادي للمكان، بل أيضاً الدلالة الاجتماعية-السياسية التي تؤطر الضمّ الاتصالي المجرّد، أي فضاء النقاش الجماعي. وهنا، نقصد مساحات الخرسانة في ذا لاين المفتوحة للجمهور، سواء كانت ملكية عامة أو خاصة، التي يجب أن تخلق المقعد المتنامي للعيش التشاركي، وأن تنسّق الواحات الحضرية للإبداع الاجتماعي البنّاء، وأن تصوغ شبكات الهوية المتروبولية. والأهم أن تختبر في مقاربة مختلفة إمكانية تخطي مشاكل التجزئة الناتجة عن التشبّع المُدني الزائد.

 

ضمن هذه الديناميكية، تُعدّ الأماكن العامة الحيّز الأساسي للتفاعل داخل المشهد اليومي في ذا لاين، أكثر من أي مكانٍ آخر في أي وقت مضى. ولا شك في أن الفريق الحقوقي المكلف بالمهمة يدرك جيّداً أن "الإدارة القانونية" القائمة على إسقاط القواعد التقليدية ستنتهي عاجزة عن تسديد المستهدفات الوظيفية.

 

لذا، إن الهيكلية التشريعية المأمول تكييفها ينبغي تثقيل أوزانها في اتجاه الإدارة المتكاملة لمجموعات الفضاء العام الحضري، حتى تنسِّق بانسيابية، ما بين الدلالة الوظيفية لتأطير سياسة تكثيف النسيج التشاركي مقابل الأسس المبدئية لحق الملكية.

 

مفارقة البيانات الشخصية بين الإدارة المُدنية والحماية المَدنية

تحتلّ ذا لاين مكانة خاصة في الخيال القانوني، حيث تقف في عمق سردية المدينة المستوحاة من عصر المشهد، القادرة على طمس المسارات الحقوقية التقليدية بصورها الباهرة وعلى إلغاء كل إشارة تعريفية للانطلاق.

 

ففي ظلّ إنتاج الأنماط الذكيّة للإدارة العامة، تنبت الضغوط القانونية عقب استخدام المشاعات الحضرية المجهّزة بتقنيات الاستشعار والهادفة أصلاً إلى جمع البيانات الشخصية من أجل تحسين نوعية حياة سكانها. ويحضرنا من الصين مثال ديالكتي، حيث يأخذ الابتكار التكنولوجي دور الرقابة الجماعية من خلال أضخم شبكة من كاميرات المراقبة في العالم مصحوبة بنظام التعرّف إلى الوجه Skynet، وتحديد هويّات مئات الملايين من الأشخاص كل ثانية. هذا الجهاز ليس مخصصاً للسلامة الأمنية فقط، ولكنه مدعوم ربطاً ببرنامج تصنيف للمواطنين هدفه، تمتين الانخراط الفردي على أساس تتبع سلوكهم في الأماكن العامة أو من باب أدق، تطبيق نهج الثواب والعقاب.

 

غالباً ما تكون القوة النظامية التي تجسّدها المدينة الذكيّة مزيجاً من أجهزة التحكّم والمراقبة وتقنيات تحسين التدفق ومؤسسات الإدارة والتخطيط. بيئةٌ معقّدة بما لا يترك مكانة واسعة لحركة المواطن العفوية. لذلك، لا نؤيّد الرهان على استقامة حضارية مصطنعة سلبياً، بل على صيغة تشاركية؛ لائقة في الممارسة، وإيجابية في التبادل، وتفاعلية في التعاون.

 

تأسيساً، يتطلب تأطير ذا لاين كمدينة ذكية نموذجية؛ تتويج التوازن المثالي بين الجهات الفاعلة العامة والخاصة من ناحية، بموازاة تحفيز الابتكار من ناحية أخرى، وأيضاً إعلاء القضية الأساسية المتمثّلة في حماية الخصوصية من ناحية ثالثة. بناءً على ذلك، تتمحور النهضة القانونية عند إشكالية إثبات تجانس حقوقي ثوري، يقف في نقطة تلاقٍ بين القانون العام وقانون حماية البيانات الشخصية.

 

في هذا السياق، تُعدّ إدارة هذه البيانات، نواة الابتكارات التكنولوجية للثورة الرقمية، عملية جوهرية في النظام المُدني العام داخل ذا لاين، سواء في تطوير البنى التحتية، أو في اعتماد تصميم تحضري تكتيكي، أو في توقع الاحتمالات المستقبلية، أو في تعبئة الإمكانات التقنية. من هنا، يتجلى مغزى إحاطة هذه المادة الخام بمقاربة قانونية محترفة، لناحية:

  • اعتماد نهج حقوقي من خارج الصندوق يحدّد كيفية استغلال داتا المعلومات الشخصية كضرورة هيكلية لإدارة مدينية واعدة.
  • التمسك باحترام مبادئ الحريات المَدنية.

 

إزاء عالمٍ ينبئ، حسب التكنولوجي Bruce Schneier، بأننا سننتقل من واقعٍ "اعتدنا أن تحتوي الأشياء على حاسوب فيها، إلى حيث لن نجد حولنا إلا أجهزة كمبيوتر مرفقة بأشياء ذات صلة"، تتمايز رؤية 2030 بتفوّق الدفق السردي السياسي على الخطب التقليدية المملّة، والنزعة الحضرية الإبداعية على التشبّع الهندسي العشوائي، والحوكمة الثلاثية الأبعاد على المقاربات الاقتصادية الهجينة.

 

في الخلاصة، تفاعلت هذه المحاكاة مع أجزاء من أعراض التغيير العميق المتوقع في مشهد العمل العام. ومهما صنّفها البعض من قبيل المغالاة الحقوقية إلّا أن هذه الوثبة القانونية الاستطرادية إلى العمران الخيالي هي المختبر البحثي لمستقبل التشريعات المُدنية والمَدنية في حضارةٍ سيغيب عن صورها بائع الزهور ويتصدّر فضاءها بائع باقات الخدمات الرقمية.

 

*رئيسة قسم القانون الخاص في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية – الجامعة اللبنانية

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium