النهار

حرائق غزة ويقظة الضمير العالمي
الأمير محمد بن سلمان.
A+   A-
النار لها عادة خطيرة، تبدأ بشعلة وتنتهي بحريق. وحرب غزة أشعلت حريقاً اتّسع بالرغم من الاحتواء حتى وصل إلى جنوب البحر الأحمر وبحر العرب.

ومهما أصرّت تل أبيب وشركاؤها على تبرير أو فصل جرائمهم في فلسطين عن غيرها، فلم تعد هناك أغلبية تصدّقهم، حتى من أهلهم. والمعارضة الشعبية الواسعة في أميركا وأوروبا، والخجولة في إسرائيل، تكشف ضعف ادّعائهم ومنطقهم.

أحسنت البلدان العربية برفضها المشاركة في الحملة العسكرية على اليمن، بالرغم من الضغوط. فقد حذرت من قبل مراراً وتكراراً من دعم الميليشيات الإيرانية في المنطقة وشرعنة وجودها. وتكفّلت بتنفيذ قرارات مجلس الأمن بتحرير اليمن منهم ودحر انقلابهم حتى وصلت إلى حدود صنعاء والحديدة؛ ولما أوشكت على تحقيق النصر النهائي انتفضت قوى الغرب لنصرتهم بعذر أن السّلام ممكن معهم.

فشِل الحوار، وتمّ اختراق اتفاقية استوكهولم حتى فرغت من مضمونها، وتواصل التهديد لدول الجوار ومناطق الشرعية والممرات البحريّة، وتكفّل الغرب بتهوين هذه الأخطار وتهويل عمليات الرّد عليها، وتشكيل جبهة ضغط دولية لمواجهة الرّد لا الفعل.

ولما نجحت السعودية ودول الخليج في كسر دائرة العنف وإطلاق مشروع السلام بدءاً بالاتفاق التاريخيّ مع إيران، شكّك دعاة الحوار ونبذ الصراع في النوايا، خاصّة لمحوريّة دور الصين وحضورها السياسي والاقتصادي المتنامي في المنطقة، ولم يتحمّسوا كثيراً للنجاحات التي تحققت من إيقاف الحرب وتجديد الهُدَن وتسارع خطوات الوفاق.

واليوم، يريدون منّا أن نتخلّى عن هذه الإنجازات، وأن نخرق هذه الاتفاقيات بالانضمام إلى حلفهم الدولي للرد على ضربات الحوثي وتعطيله للملاحة الدولية نصرةً لغزة!

ألم يكن من الأولى لجم الوحش الصهيوني عن مواصلة عدوانه بالسلاح الأميركي والغطاء البريطاني؟ وأين ذهبت خيارات السلام وتغليب الحكمة وطاولة الحوار؟ أين غابت الديبلوماسية التي طالما صدّعوا رؤوسنا بها عندما كنّا نحن بين مطرقة الإرهاب وسندان الغرب؟

النار اليوم ترتد على من أشعلها، والمجتمع الأمميّ الذي تابع مصدوماً بجاحة الصهاينة، وتعدّيهم على القيم الإنسانية، وتحدّيهم للقوانين الدولية والبشرية، انتفض أخيراً ليقف مع دولة جنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.

ولقد كان تبنّي هذه الدولة تحديداً من قبل قيادة المجموعة العربية-الإسلامية لرفع الدعوى موفقاً للغاية. فهي التي عانت من الفصل العنصري والاستعمار البريطاني والإبادة الجماعية عقوداً، ونجحت بدعم الأسرة الدولية وشعوب العالم في التحرّر. وهي ومثيلاتها من البلدان ضحية جرائم حرب نفس الدول التي تدعم إسرائيل اليوم، كما كشفت ناميبيا في ردّها على موقف ألمانيا من دعوى الإبادة الجماعية، وهي السبّاقة إليها في هذا البلد الأفريقي وغيره، مطلع القرن العشرين.

ولأن جنوب أفريقيا دولة ديموقراطية لم تدخل في صراع مع إسرائيل أو شريكها الأميركي، فهي طرف محايد وشاهد نزيه، ولا مبرّر للمدّعى عليه باتهامها بالانحياز أو ارتكاب مجازر مماثلة أو استدعاء سجلها الديموقراطي وفي حقوق الإنسان.

نجح المحامي الأفريقي باستخدامه للوثائق المعلنة والتسجيلات المصوّرة لجرائم الحرب والتصريحات الرسمية للساسة والقادة والجنود التي تكشف النيّة وتثبت الفعل. وفشل الإسرائيلي بنفيه للمثبت كتدميره للمناطق المدنية والاستهداف الممنهج للمستشفيات والمدارس والملاجئ.

كذلك فشلت محاولته تحويل الادعاء على حماس، بالرغم من أنها ليست دولة أو تحت المحاكمة الجارية، واتّهامه لمصر بمنع دخول المساعدات الإنسانية بالرغم من أنه من أغلق المعابر ورفض دخول تمريرها علناً وبشهادة الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية.

الكرة أصبحت في مرمى المحكمة، والأمل في أن يصدر قرار إيقاف الحرب على غزة خلال أيام. أمّا الحكم في دعوى الإبادة الجماعية فيُتوقّع له أن يطول أسابيع في أسرع الأحوال أو شهوراً. ويترتب على القرار الأول التنفيذ الفوريّ، وعلى الثاني عقوبات دولية ملزمة قانونياً للدول الأعضاء في المحكمة، وهم أغلبية كونيّة.

وهنا، يأتي دور مجلس الأمن والأمم المتحدة لمتابعة التنفيذ، كما يأتي دور اللجنة الوزارية المنبثقة عن القمة العربية الإسلامية برئاسة السعودية لمواصلة جولاتها المكوكية والضغط السياسي على الدول الكبرى والمنظمات الدولية. وفي كل الأحوال، تكون تل أبيب قد سقطت سقوطاً تاريخياً مدوّياً في محكمة الرأي العام.

العمل الشامل المتكامل الذي انطلق من بيت العرب الرياض، وشمل التنسيق مع الدول الفاعلة خارج المنظومة العربية الإسلامية، مثل جنوب أفريقيا والصين وروسيا والهند والبرازيل، والمنظمات الدولية خارج نيويورك، مثل شانغهاي وبريكس وآسيان ووسط آسيا والتعاون الأفريقي ودول الكاريبي، سيستمر ويتصاعد ليس فقط لإنقاذ غزة وتأمين المنطقة وتجريم الكيان الصهيوني، ولكن أيضاً لإعادة القضية الفلسطينية بمجملها على رأس الأجندة الدولية، والعمل على حلّها على أساس المبادرة العربية وقرارات مجلس الأمن.

هناك من أشعل النار ونشر الحرائق واكتوى بها، وهناك من يقود العمل الدولي لتطويقها وإطفائها. وشتان ما بين صنّاع الحرب وصنّاع السلام!

@kbatarfi

اقرأ في النهار Premium