فراس الأمين
انظر إلى هذه النخلة، أوراقها متشابهة، متحدة، متكاملة، لكن لا توجد واحدة بقياس الأخرى.
هكذا نحن، التنوّع في الوحدة، وقوة الوحدة في تنوّعها.
هكذا خلقنا الله، هكذا أرادنا أن نكون.
ثم انظر يا فراس إلى هذا الخط المستقيم، وانظر إلى الخط المنحني. بهما ارسم واصنع كل شيء.
بالمستقيم والمنحني. ألوّن ما بينهما، بهما انحت، الوجه، العين، الكتفين، الردفين، الرموش، الطيور، التفاحة، الشمس، الرمان، النهدين.
وللحكاية أصل، وللأصل فرع عميق في الموهبة والفن، من شبعا إلى بغداد فروما (٢٢ سنة) فبيروت. نقل شبعا إلى منزله المطل على الجامعة الاميركية في بيروت.
الصوبيا والحطب والموسيقى والأصدقاء والباستا الإيطالية و… الريشة التي لا تتعب.
طوّع الحديد، طوّع الألوان، طوّع الوضوح وجعله فناً حديثاً، بل فناً إسلامياً حديثاً كما كان يحب أن يقول لعارفيه.
*
سهرنا في إحدى ليالي بداية عام ٢٠٠٠. بعيد منتصف الليل قررت المغادرة. قال لي تمهّل، خذ هذا معك. أعطاني مسدسه، "ما هذا؟" قلت.
"إذا بقي معي فقد أنتحر".
جلست. لماذا يا معلم؟
قال إن الحياة قاسية وفارغة رغم كل صخب الألوان المتأججة من إبداعه…
الهرّ الأسود ماريو كان رفيقه لسنوات.
رسمه مراراً وتكراراً. في يقينه أن ماريو لديه بعض صفات البشر لكنه ألطف.
كان منزله أشبه ببيت عائلي كبير، موسيقى، فرح، طرب، غناء، نبيه الخطيب، سمية بعلبكي، محمد الرواس، المحترف علي شوربا، عادل، نضال (الوفي حتى آخر لحظات المعلم).
نجتمع كل مساء حول مائدة إيطالية يقررها ويختارها هو بعناية.
بعد بضع سنوات غضب على ماريو طلب ألا يبقى معه. فعل الأمر نفسه مع عدد من زواره المعتادين. حصر الحلقة الضيقة بمجموعة صغيرة.
كان يمرّ بدورات: أشهر من الإنتاج الكثيف، ثم فترات من الإحباط والتوقف الكامل عن العمل. الأطباء الممتازون المهاجرون سامي خليفة ورنا شرارة وأشرف مكي كانوا قربه في الأوقات الصعبة من هذا النوع.
*
سألته مرّة، هل تعجبك أعمال فنانين لبنانيين آخرين؟ قال: بعد الكبيرين منير عيدو وشفيق عبود قلّة. الباقي خربشة.
"على الفنان أن يعرف أولاً كيف يرسم الوجه، والتفاحة والرمانة والشجرة والهرّ والطبيعة قبل أن يتفلسف ويدّعي الرسم التجريدي أو أي نوع آخر".
طلب مني مرافقته لزيارة معرض لسلوان إبراهيم. فعلها واشترى منه لوحتين.
عام ٢٠٠٣ قال: وافِني الى إيطاليا، سأعرض في قرية قرب ألكسندريا وسوف ترى إيطاليا كما لم ترها من قبل.
وافيناه، ميراي مرهج وأنا. أربع ساعات ونصف من القيادة حتى وصلنا. وإذا بنا داخل قرية على بعد ساعتين من ميلانو. يسكنها ثلاثة: السكون، كبار السن وقصر يأتي إليه أصحاب الغاليريات من أنحاء أوروبا لاستكشاف أعمال كبار الفنانين.
أطل من نافذة بيت صغير وقال هيا بنا!
أقاموا له احتفالاً كبيراً. قال رئيس المقاطعة "أنت بيكاسو العرب وبيكاسو إيطاليا".
في جلسة لاحقة مع كريم قبيسي وأنا قال ماضي: "كل شي مجعلك هو بيكاسو، كل شي واضح هو ماضي".
*
التنوع في الوحدة انعكس على معظم مظاهر حياته. منزلان في الشارع نفسه. سيارتان من النوع نفسه (2 Chevaux) وجيب باترول ٢. تحدث مراراً عن زواجه الذي لم يدم. أراد زوجته أشبه بلوحة فلم تقبل. قال كنت أريد أن أختار لها ملابسها فكانت ترفض. قلت وكيف تريدها أن تقبل؟ أجاب: كان عليها أن تثق بذوقي. لم تفعل.
من لا يثق بذوق ماضي؟
في ٢٠١٠ علّق ثلاث أوراق على باب غرفته:
"الغني من استغنى"،
"كم من حاجة قضيناها بتركها"،
"لم يترك لك الحق صاحباً يا عمر"،
أتبعها برابعة بعد سنوات قليلة:
"الرحيل وشيك".
قال لي إنه يريد تغيير طريقة رسم الأرزة على العلم اللبناني. أن يسهّل مهمة رسمها لكل أطفال لبنان. ابتدع أرزة، رسمها بخطيه، المستقيم والمنحني، وضعها على لوحة وطلب مني نقلها للسلطات المختصة. فعلت، لم يستجب أحد.
*
عايدة شرفان رافقته طويلاً وحرصت على أعماله بأناقة كاملة. كانت رقيقة في التعامل مع لوحاته ومنحوتاته. بعد فترة لاحظت انقطاعه عنها. سألته، لماذا؟ قال إنها لم تأخذه إلى العالمية بما يكفي. ثم مدحها ومدح زوجها الطبيب الشهير جورج.
سافرت إلى مصر. قال لي تذهب إلى سوق الغورية مقابل خان الخليلي. تدخل إلى حيث يبيعون المساند. عليها نقوش إسلامية ونقوش مسيحية. تحضر لي خمسة مختلفة من كل نوع. فعلت. شرح لي الفرق بين النقوش الإسلامية والمسيحية.
هذه المساند تظهر اليوم في العديد من لوحاته.
علمنا بالصدفة أن أحدهم زوّر له لوحة ووضعها في مزاد علني في دبي. الأصلية كانت عندي في البيت. بعد جهد جهيد اكتشفنا المزوّر. حمل عصا، قضيب رمّان، وذهب إليه في الحمراء وبهدله. قال لا تدّعِ عليهم لكن احرص على أن يدمّروا اللوحة المزوّرة. فعلت بمساندة المحامي الأقدر كريم قبيسي.
قضيب الرمّان استعمله مرة أيضاً مع الزميل الراحل نزيه خاطر. تفلسف عليه في مقال. نزل حسين إلى مقهى المودكا وأعطاه فلقة على قفاه فولّى نزيه في شارع الحمراء ولم يعد الكرة.
كانت لـ"النهار" و"السفير" علاقة احترام قديمة معه. عمل مع الكبير الراحل طلال سلمان لسنوات وجمعه وغسان تويني و"النهار" و"السفير"، شارع الحمراء، حب لبنان والديوك!
روائع ديوك الفن نحتاً ورسماً خرجت من تحت يديه. أجمل ديك رسمه تملكه اليوم ناشرة هذه الصحيفة، نايلة، منذ عشرين عاماً. لا يزال عندها ساحراً بألوانه.
شاء القدر أن يعمد البعض إلى طبع نسخ ليتوغرافي من لوحة الديك هذه – وغيرها - العام الفائت. لا تعليق.
يبقى الأصل الأجمل.
نحت ماضي لاحقاً ديكاً أزرق بلون ديك "النهار". باهر. يكاد يصيح مراراً كل يوم.
اشتريته. قال لي احتفظ به لا تهده لأحد.
*
عن الكتاب، سأل هل تظن أنه يجب أن أصدر كتاباً؟ قلت إن الله سبحانه وتعالى تواصل مع الناس وخلد نفسه عبر الكتب. أجاب: لم يسبقك أحد على هذا الجواب. سأعمل عليه مع عايدة. أصدره ثم صدر كتاب ثانٍ. كان يوقع الإهداء برسمة مختلفة. ويتحدّى أياً كان أن يفعل مثله.
قال "عائلة مديتشي خلدت نفسها في فلورنسا بأعمال كبار الفنانين. على كل من يرغب باقتناء ما يدوم الى الأبد أن يشتري فناً جميلاً".
يمكن أن أسرد صفحات وصفحات عن المعلم والذكريات معه .
أختم: البقاء لفنّك يا أستاذ، يا معلم، يا حسين. لك الحب كله يا ماضي.
لجميع من اقتنوا ماضي: حسناً فعلتم. تملكون جزءاً من الوضوح في حياتكم وسيكون أفضل ما سيؤول إلى ورثتكم.
حسين ماضي هو الوضوح كاملاً.