يسهل فهم البشر عندما يسيّرهم العقل، وتقودهم المصلحة. يمنعهم الخوف، ويدفعهم الأمل. أمّا إذا حكمت المشاعر، وتحكّمت العقائد، ولم يعد الخوف والأمل من الحاضر الناظر، بل من الغائب المستتر، يتعسّر التفسير والتبرير للفعل وردّه، والتوقّع له.
تأسست علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع على المنطق، ووضعت قواعدها وأنظمتها على سعي الإنسان للربح وتفاديه للخسارة، تعظيمه للعائد وتخفيضه للمفقود، وأنّ حساباته منظورة ومكتسباته ملموسة. وهكذا يمكن التنبّؤ بأهدافه وتحدّياته، ورسم الخطط لتنشيط الحراك والتغلّب على المحبطات.
ولك أن تتخيّل موقف العالم والأكاديميّ، الكاتب والمحلّل السياسيّ، عندما نقف أمام ظاهرة "جنون البقر" التي تجتاح العالم اليوم، وتعرقل أيّ قدرة على الفهم والتفسير والتوقّع. فعندما ينطلق القادة من بواعث باطنية، ويأتمرون بتوجيهات غيبية، ويتحركون وفق نسق عقدية، عليك إمّا أن تلبس لبوسهم وتعايش مفهومهم وتنظر إلى العالم من منظورهم، أو أن تستكين إلى المفهوم العلمي للظواهر العشوائية التي لا تلتزم بنظام معروف، وتكتفي بالتعامل مع الأفعال والنتائج.
خلال العام الماضي والأسابيع الماضية، توقّف العالم أمام أحداث تبدو غير عقلانية، يصعب تفسيرها وتبريرها، وبالتالي تسطيرها على أيّ مقياس. فإسرائيل استطاعت خلال سبعة عقود إقناع حلفائها ونسبة غالبة من شعوب الغرب ومثقّفيه أنّها دولة متحضّرة وجزيرة ديمقراطية تحمي حقوق الإنسان وتمثّل قيم الغرب في محيط متمرّد على كلّ ذلك، يريد أن يبتلعها. وبالتالي وجب توفير الدعم العسكريّ والأمنيّ والغطاء السياسي والدبلوماسي لها حتّى في حالة ارتكابها أخطاء جسيمة طالما أتت في سياق الدفاع عن النفس.
هذه الصورة النموذجية التي بذل كلّ مؤمن بوجود اسرائيل الجهد والمال والعلاقات لترسيخها، منذ منتصف القرن الماضي، تنهار كلّ يوم على أيدي القادة العقائديين والجيش المتوحّش والشعب المؤيّد. فيما ظهر العرب لأوّل مرّة بصورة المتعقّل، المدافع عن القيم الإنسانية والحضارية، وبدا الفلسطينيون ضحية لآلة الحرب الصهيونية.
وهكذا تحوّل الذين وافقوا على إلغاء قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 1973 "أنّ الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، نتيجة لمباحثات السلام في مدريد، في ١٩٩١، إلى المطالبة بالحكم عليها في قضية "الإبادة الجماعية" المرفوعة ضدّها من قبل جنوب أفريقيا، والمنظورة في محكمة العدل الدولية.
وأنقلب الشباب الأميركيّ بنسبة ٨٥ في المئة من مؤيد لها إلى ناقم عليها. وتمردت دول أوروبية رئيسية، كإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا واليونان وقبرص وألبانيا وإسكتلندا، على مواقف الاتحاد الأوروبي التاريخية، لتؤيد إدانة إسرائيل. وحتى حلفاء إسرائيل التقليديين، أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، باتت تنتقد علناً تنصّل رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته، من اتفاقيات أوسلو وكامب دايفيد التي وقّعها أسلافه لحلّ الدولتين، وتطالب بالوقف الفوري للعدوان على غزة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية بلا قيود، وعدم تسليح المدنيين في الضفة الغربية، وتسليم السلطة الفلسطينية مستحقّاتها المالية، والموافقة على تسلّمها قيادة غزة في مرحلة ما بعد الحرب، بدون تواجد لقوّة عسكرية إسرائيلية في القطاع.
واستطاعت إيران، من الجانب الآخر، أن تحافظ على توازن استراتيجي مع الدول العظمى، بعد أن تكفّلت بزعزعة أمن المنطقة لحساب أمن إسرائيل، وتبنّي المليشيات الإرهابية وتوجيهها ضدّ من يرغب الغرب في إبقائهم تحت مظلته الأمنية. وهكذا كسبت الدعم الأميركي بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية خلال ثماني سنوات من الحرب مع العراق، وحافظت على سلامة مليشياتها الولائية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزّة، وعملائها في الخليج والسودان والصومال وغيرها من البلدان.
ورغم المناوشات مع إسرائيل والعقوبات الاقتصادية الواقعة عليها من أميركا ودول أوروبية، إلّا أنّها التزمت بقواعد الاشتباك مع هذه الدول، وحمايتها من الجماعات الإرهابية التي تنضوي تحت رايتها، مقابل إطلاق يدها في الدول العربيّة التي ضمّتها إلى دائرة نفوذها.
كلّ هذا يدلّ على حصافة سياسية تستخدم عصا ثيران الحرس، وجزرة التاجر الفارسيّ. تتحدّى الخطوط المرسومة بالاستمرار في برنامجها النووي والصاروخي، وتعوّضه بالفوائد الأمنية وضبط النفس أمام الضربات الإسرائيلية. تعلن الحرب على أميركا، وتعلمها مقدّماً عن أيّ ضربة صاروخية على محيط قاعدة أو سفارة لغرض الدعاية والاستهلاك المحلّي.
مؤخراً، بدا وكأنّما اختلطت الحسابات الإيرانية، بعد أن تحرّكت السعودية والسلطة الفلسطينية مع أميركا وإسرائيل، باتّجاه حلّ دائم للقضية الفلسطينية، يسحب البساط من تحت أقدام المزايدين عليها والمتاجرين بها. وفي حركة غير محسوبة العواقب، دعموا عملية ٧ أكتوبر مع وعد بالتدخّل لكبح جماح الردّ الإسرائيلي. إلّا أنّ "جنون البقر" الذي ساد في تل أبيب، دفع ثيرانها إلى جريمة القرن الواحد والعشرين، بدون تعقّل أو منطق يمكن استيعابه والتعامل معه. وهكذا وقع ملالي طهران في مأزق لم يحسبوا له حساباً، ويدفعهم دفعاً لتخطّي قواعد الاشتباك المتّفق عليها، على حساب عملائهم العرب في المنطقة.
الضحية الأولى كانت حركة حماس وجماعة الجهاد الإسلامي في غزة، التي تورّطت في حرب غير متكافئة، جاءت على حساب المدنيين، فقتلت عشرات الآلاف منهم، وهدمت مدنهم وقراهم، وهجّرتهم إلى ملاجئ مكشوفة للقصف الجوي، ومحرومة من أبسط مقوّمات الحياة. وسرعان ما تنصّلت إيران من دورها في العملية، ومن وعودها بالدعم العسكري، واكتفت بتحريك جماعاتها الولائية لرفع الرايات والمظاهرات في الشوارع وعلى الحدود الأردنية، وقصف الأعمدة والفضاء في شمال إسرائيل، والصواريخ التي لا تصل ولا تصيب أهدافاً عسكرية، في البحر الأحمر وسيناء وبحر العرب.
والضحية الثانية، كانت جماعة الحوثي التي أطلقوا صواريخها على السفن التجارية في مضيق باب المندب الحيويّ، وخليج عدن، فعطّلوا المصالح الحيوية للمنطقة وأوروبا وإسرائيل. وأمام الردّ الأميركي البريطاني، والامتناع السعودي العربي عن المشاركة، بدا وكأنّ الجماعة أصبحت في مرمى النيران، وهي التي طالما حظيت بالدعم الغربي العلني والمستتر، وأبرزها منع التحالف العربي من دخول صنعاء والحديدة في 2018 بدعوى حماية المدنيين، وتجميد أو تقليص مبيعات السلاح والدعم اللوجستي لقيادة التحالف، وتكثيف الضغوط السياسية عليها لإيقاف الحملة العسكرية التي انطلقت في 2015 لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2216 لدحر الانقلاب ودعم الشرعية.
الضحية الثالثة من عملاء إيران، هي "حزب الله"، الذي ضربت مصداقيته في مقتل، نتيجة ضعف الردّ أمام القصف الإسرائيليّ واغتيال قادته وقادة حماس في مربّعه الأمني في الضاحية الجنوبية.
أمّا الضحية الأهمّ، فهي إيران نفسها. فرداً على اغتيال كبار قادتها في سوريا ولبنان، وقصف قواعدها في البلدين، قامت طهران بقصف مناطق سكنية، أدّعت أنّها مراكز استخباريّة إسرائيلية في كردستان العراق وسوريا، لم تصب غير المدنيين ومشاعر الحكومات الولائية في العراق وسوريا. ولما لم يأتِ ردّ يوجعها أو حتّى يؤكّد تضرّر أعدائها، تهوّرت فضربت قرى باكستانية زعمت أنّ فيها قاعدة لجيش العدل البلوشي الانفصاليّ، وحينها جاء الردّ هذه المرّة قويّاً وسريعاً، بقصف مماثل بالصواريخ والطائرات المسيّرة قالت باكستان أنّها قواعد لانفصاليين باكستانيين تأويهم إيران. مع إجراءات دبلوماسية صارمة.
وبدون تقديم دعم عسكري عدا مواصلة تهريب السلاح ومكوّنات الصواريخ البالستية والبحرية والطائرات المسيّرة الانتحارية لصنعاء، واصلت ماكنة الدعاية الإيرانية تأييد عمليات الحوثي ورفض الهدنة في غزة، والتهديد المعتاد بـ "الردّ في الوقت المناسب والزمان المناسب" على الاعتداءات الإسرائيلية ضدّ قوّاتها ومصالحها. والنتيجة، تورّط دولي، وإثبات تهمة، وإحراج للحليف السرّيّ، بدون توفير الحماية لعملائها أو تحقيق المكاسب المرجوّة، إلّا ما جنته إسرائيل على نفسها.
طوفان طهران ارتدّ عليها، وعاصفة إسرائيل تحوّلت ضدّها، وحالة جنون البقر التي انتابت حلفاء الطرفين خرجت عن السيطرة. وبات على عقلاء المنطقة العربية والأمة الإسلامية أن يقودوا المجتمع الدوليّ لاحتوائها قبل أن تمتدّ إلى مساحات أوسع وبلاعبين أكثر، وتوتّر لم يعد عالم ما بعد غزو روسيا لأوكرانيا وتهديدات الصين لتايوان يحتمله.
@kbatarfi