ينتاب عدداً كبيراً من العرب اليوم شعورٌ مفاده أنها، مقارنة بسطوتها في الماضي، لم تعد إسرائيل قويّة اليوم، وأنها ماضية في التدهور والتراجع، وأن شرعيّتها الدولية في تآكل، وأن الوقت هو حتماً في مصلحة الفلسطينيين. وعلى القياس نفسه، يصبح وضع الفلسطينيين الأفضل في تاريخه، إذ إن أداءهم العسكري يبدو قوياً بشكل غير مسبوق، وقادراً على إيقاع خسائر في صفوف الإسرائيليين ومنع انتصارهم، فيما يبدو أن الرأي العام الدولي، خصوصاً في الولايات المتحدة، انقلب لمصلحة الفلسطينيين، وصار يضغط على الحكومة الأميركية للتنصل من تحالفها القوي والثابت مع الدولة العبرية، ما يشي بأفول إسرائيل، على غرار انهيار نظام جنوب أفريقيا الأبيض مطلع التسعينيات. لكن نظرة سريعة إلى التاريخ تشي بعكس ذلك.
لم تستند إسرائيل في تفوقها على العرب، بين 1939 و1967، إلا على قوة عالمية متوسطة الحجم هي فرنسا، التي زوّدت الإسرائيليين بالسلاح، ولاحقاً بالتقنية النووية. وفي تاريخها، يندر أن التزمت فرنسا في سياساتها الدولية بأية أخلاق أو مبادئ، إذ هي تتبع دائماً مصلحتها، خصوصاً المادية، فباريس مثلاً كانت أكبر بائع للسلاح لنظام صدام حسين في العراق، بما في ذلك مفاعل أوزيراك النووي الذي دمرته إسرائيل في 1981.
سبب رعاية فرنسا لإسرائيل، بدءاً من 1939، هو انقلاب البريطانيين على اليهود، إثر مؤتمر لندن للسلام بين العرب واليهود، خوفاً من ارتماء الكتلة العربية الضخمة في أحضان النازية. هكذا رمت فرنسا بثقلها خلف الحركة الصهيونية، لا للفائدة المالية فحسب، بل انتقاماً من بريطانيا، التي كانت انتزعت سوريا ولبنان من الفرنسيين، وسط مسعى بريطاني للاحتفاظ بإيران والعراق والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، للتعويض عن ضمور إمبراطوريتها، خصوصاً في الهند، أمام صعود الإمبراطوريّتين الأميركية والسوفياتية على حسابها.
بعد الحرب العالمية الثانية، حاولت إسرائيل استمالة أميركا، وانحاز لها الرئيس هاري ترومان بعض الشيء، لكنها صداقة ظلّت خجولة في الخمسينيات والستينيات، مع الرئيسين دوايت آيزنهاور وجون كينيدي، الذين استماتا لاستمالة زعيم مصر الصاعد جمال عبدالناصر لإبعاده عن الشيوعية والسوفيات. لهذا السبب، أهدى آيزنهاور انتصار 1956 لعبدالناصر بعد تهديده دول عدوان السويس — بريطانيا وفرنسا وإسرائيل — مع أن إسرائيل أفادت من الحرب بإجبارها المصريين على فكّ الحصار عن خليج إيلات، مقابل انسحاب الإسرائيليين من سيناء ونشر قوات دولية.
ثم بعد انتصار إسرائيل المدوّي في 1967 — باستخدام مقاتلات الميراج الفرنسية — على مصر وسوريا والأردن، وجدت الولايات المتحدة حليفاً قوياً في إسرائيل ضد الشيوعية في الشرق الأوسط، وبدأت العلاقة تتوطّد، حتى صارت تحالفاً متيناً مع حرب 1973، وتوطدت أكثر مع انهيار حليف أميركا الأول، شاه إيران، بعد ذلك بست سنوات.
لكن التحالف بين أميركا وإسرائيل لم يمنع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 1974، من المصادقة على قرار اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، على عكس رغبة إسرائيل، ولا منع الجمعية من التصويت على قرار اعتبار الصهيونية نوعاً من أنواع التمييز العنصري، وهو قرار تراجعت عنه الأمم المتحدة في التسعينيات.
على الرغم من التحالف، شابت العلاقة بين أميركا وإسرائيل توترات. مثلاً، على إثر تدميرها المفاعل النووي العراقي في 1981، أوقفت واشنطن صفقة بيع مقاتلات أف 16 للإسرائيليين. لكن ذلك لم يمنع الإسرائيليين من إسقاط مروحيتين سوريتين شاركتا في حصار زحلة، ولا بتهديد تدمير صواريخ سام المضادة للطائرات، التي دفع بها الرئيس السوري السابق حافظ الأسد إلى البقاع. ثم قامت مقاتلات إسرائيلية بأول غارة في تاريخها ضد أهداف فلسطينية في داخل بيروت، فردّت الفصائل الفلسطينية بقصف عنيف على شمال إسرائيل، وكان ذلك قبل زمان القبة الحديدية والملاجئ، فأوقع القصف قتلى في صفوف المدنيين الإسرائيليين، وأعلنت إدارة الرئيس الجمهوري رونالد ريغان المزيد من التأخير في الموافقة على بيع إسرائيل المقاتلات.
وبسبب عزلتها، بالكاد أعلنت إسرائيل عن تحالفها مع قائد القوات اللبنانية بشير الجميل، إذ نصحت واشنطن الشيخ بشير بإصدار بيان تنصّل من تعاونه مع الإسرائيليين حتى لا يخسر تأييد ودعم العواصم العربية. وعندما حاول الجميل زيارة واشنطن، وردت تقارير استخباراتية عن نية السوريين إسقاط المروحية التي كان سيستقلّها من جونية إلى قبرص. وعندما استقلّ مروحية عسكرية لبنانية إلى لارنكا، استخدمت "منظمة التحرير" نفوذها لدى القبارصة لمنع الجميل من الانتقال من مروحية عسكرية إلى طائرة مدنية.
كلّ ما أراده الراحلان رئيس الجمهورية إلياس سركيس والجميل هو إخراج القوات السورية من لبنان ونزع سلاح الميليشيات الفلسطينية، وهما طلبان لا غبار عليهما من ناحية القانون الدولي، والمنطق، وشرعية السيادة اللبنانية.
لكن العالم لا يسير حسب القوانين ولا حسب المنطق، بل حسب المصالح وموازين القوى. لذا، نصحت واشنطن الجميل بالحوار مع الأفرقاء اللبنانيين المسلمين، فردّ الجميل بأن الحوار كان متعذّراً مع زعيم الدروز وليد جنبلاط، الذي كان لا يمكنه اللقاء مع المسيحيين من دون وجود النائب ألبير منصور، ممثلاً السوريين، ممّا يكبح جماح جنبلاط، تحت طائلة الإيذاء الجسدي الذي كان سيلحق به، على غرار والده المغدور كمال جنبلاط.
لم تنقلب موازين لبنان إلا بالقوة العسكرية الإسرائيلية، التي اجتاحت في 1982، وتكبّدت خسائر في صفوفها هي ثلاثة أضعاف خسائرها حتى الآن في غزة، وألحقت دماراً بشرياً وبنيانياً في لبنان. كما تسبّب اجتياح إسرائيل لبنان بتصدّع العلاقة مع واشنطن، ممّا أجبر وزير الدفاع الراحل أرييل شارون على الاستقالة. على الرغم من كلّ المعوقات، طردت إسرائيل عرفات والفلسطينيين من لبنان، وقضت على الصراع المسلّح الذي كان يقوده فلسطينيو الشتات.
لنقارن التاريخ مع وقتنا الحاضر. خسائر إسرائيل في غزة اليوم أقلّ، وحماس أصغر بكثير من دولة عرفات في لبنان في 1982، ولا إجماع عربياً خلف الميليشيات التي تدعمها وتديرها إيران، إذ تقتل هذه إسرائيليين في أيام، وأكثر منهم عرباً في الأيام المتبقية.
أما العلاقة الإسرائيلية الأميركية، التي تبدو متوترة بسبب بعض التظاهرات العربية الأميركية أو تصريحات بعض اليهود الأميركيين، فهي ليست متوترة البتة بمقياس تاريخ العلاقة بين الجانبين. حتى أن مشروع قانون منع دخول كلّ فلسطيني متورّط في هجوم 7 أكتوبر تمّ إقراره في الكونغرس بأغلبية كلّ الأعضاء الـ435 باستثناء اثنتين: رشيدة طليب وكوري بوش. كذلك الأمر عندما حاول السناتور اليهودي بيرني ساندرز جعل المساعدات ومبيعات الأسلحة الأميركية لإسرائيل مشروطة بالتزامها معايير حقوق الإنسان: سقط مشروع ساندرز بتصويت 72 من الشيوخ المئة ضدّه، مقابل تصويت 11 فقط لصالحه، وامتناع 17.
يعتقد الفلسطينيون وأصدقاؤهم العرب والأميركيون أن الحق إلى جانبهم بوضوح لا يقبل اللبس. لكن استطلاعات الرأي الأميركية، وهي التي تملي تصويت أعضاء الكونغرس، لا تؤيّد هذه الفرضيّة. بل إن الشعور الغربي هو أن الفلسطينيين يعادون الرأسمالية والديموقراطية والولايات المتحدة والغرب بشكل عام، ويتحالفون مع "الجنوب العالمي" المعادي لأميركا والغرب، بما فيه روسيا والصين وإيران. صحيح أن طلاب كبرى الجامعات الأميركية أكثر انحيازاً للفلسطينيين، غالباً بسبب اعتبار هؤلاء الطلاب النخبويين أنفسهم مواطني العالم، لكن الأغلبية الأميركية ما تزال من الطبقة المتوسطة غير النخبوية والفخورة بوطنيتها الأميركية، والتي تعادي من يعادي أميركا وتصادق من يصادقها، أي إسرائيل.
أما وضع الفلسطينيين فأضعف مما كان عليه. في الماضي، كانت القيادة الفلسطينية أكثر وحدة بقيادة منظمة التحرير وياسر عرفات، وكانت نعمها نعماً ولاؤها لاءً. أما منذ الحرب الأهلية القصيرة والانقسام الفلسطيني في 2007، فلا قيادة فلسطينية يعتدّ بها، ولا ديبلوماسية واضحة، ولا رؤية، ولا خطة. حتى التقديمات الاجتماعية الفلسطينية اضمحلّت، وهو ما دفع الغزّاويين ممن يعانون الفقر إلى التظاهر ضد حماس، الصيف الماضي، ودفع قطر لإرسال سفيرها محمد العمادي لمحاولة حلّ الأزمة المالية، غالباً بتقليص الفساد المستشري بين صفوف حكّام القطاع.
والعرب المتمسّكون بالحرب ضد إسرائيل يعتقدون اليوم أن أداءهم العسكري أقوى من الماضي، فيما الواقع هو العكس. ويمكن مقارنة خسائر إسرائيل في أيّ من حروبها ضد العرب، بما فيها النكبة والنكسة وحرب أكتوبر واجتياح لبنان، بخسائرها في حرب لبنان 2006 وباقي حروبها مع حماس حتى اليوم، ليظهر جلياً أن الهوة بين قوة إسرائيل وقدرات أعدائها ماضية في الاتساع، ولا تكفي كمية صواريخ "حزب الله"، الذكية منها وغير الذكية، كدليل على تغير الأمور، فسوريا في الثمانينيات كانت أقرب في قوتها العسكرية لإسرائيل أكثر من إيران اليوم وكل الفصائل الموالية لها مجتمعة. سوريا اليوم في خبر كان.
ختاماً، في وقت يسعى الفلسطينيون لسيادة على أرض، تتسابق دول المنطقة لإعداد نفسها وناسها للتنافس في اقتصاد المعرفة العالمي، الذي لا يتطلب أرضاً ولا سيادة، فالأرض والسيادة لا تطعم ولا تُسمن، ولو كانتا مقياساً، لكان لبنان من أثرى الدول، لكن نظرة إلى حالة لبنان اليوم كافية لتنبئ بشكل الدولة الفلسطينية، إن قامت.
المستقبل هو ما يفترض على اللبنانيين والفلسطينيين السعي إلى تحسينه، والإقلاع عن العودة إلى ماضٍ جميل ومتخيل، وبالنظر إلى موازين القوى العالمي والإقليمي اليوم وماضياً، لا يبدو مستقبل عربِ المشرق ولا الفلسطينيين زاهياً، بل يبدو ماضيهم، على علّاته، أفضل بكثير.
* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن