النهار

مريم
أطفال فلسطينيون يلعبون بجوار الأنقاض الناجمة عن القصف الإسرائيلي على مخيم البريج للاجئين في وسط قطاع غزة (أ ف ب).
A+   A-
رياض بيدس

بكت مريم الفتاة الصغيرة بكاء مرًّا، ومسحت دموعها بطرف يدها. لم تكن تدري ماذا تفعل. كان المطر غزيرًا جدًا لا يكاد يتوقف، وصندوق لعبتها المفضّلة يقطر ماءً. كانت مريم مغسولة بالمطر البارد الذي تلسع مسامّه جسدها وعظامها بقسوة شديدة.

نظرت إلى بقايا البيت، ورأت أنه تحوّل إلى كتلة من الردم والدمار. لم تفهم ماذا جرى. قبل يوم كانت تجلس مع والديها بجانب المدفأة، والآن تحوّل البيت إلى خراب. كانت تفهم بشعورها البسيط الأول أن البيت لم يعد موجودًا. نادت بصوت يائس خائف ومرعوب: ماما ماما وين أنتي؟! بابا بابا وين أنت؟! لكن لم يخرج من كوم الدمار أي صوت.

كانت قطعة من الباطون التي تمسك بها قضبان حديدية هي التي حمت مريم. وعندما حلّ كلّ هذا الخراب بالبيت ارتعبت مريم وشعرت بأن كلّ ما ظلّ عالقًا من سقف البيت سيسقط عليها ويسحقها. انسحبت إلى الخارج، وبدأت تحاول أن تفهم ما جرى وما سيجري. ضمّت لعبتها إلى صدرها تريد أن تجد دفئًا ما، لكن الماء المتقطّر منها كان باردًا جدًّا، وبكت كما لم تبكِ من قبلُ: ماما... ماما أنا هون تعالي خذيني من هون. لكن لم تأتِ الأمُ، ولا الأب أتى، ولم يخرج أيُّ صوت من الردم. أجالت بصرها في أرجاء المكان، فرأت شجرة الزيتون المعمّرة جدًا التي كانت تلعب بجانبها أحيانًا مع أولاد خالها الذين ربما قُتل معظمهم في هذه الحرب.

جرّت صندوق لعبتها بخيط أصفر على الأرض غير مبالية بالوحل الذي كان يلتصق به. اقتربت من جذع شجرة الزيتون المنخور والمسوّس الذي كانت تختبئ فيه أحيانًا لتلعب لعبة الغميضة مع أقربائها الذين كانوا يأتون لزيارتهم بين حين وآخر. في الماضي كانت لا تفهم معنى هذه اللعبة، لكنها كانت تضحكها حين كانوا يعثرون عليها مختبئة في عمق الجذع. تساءلت بينها وبين نفسها: هل سيخرّبون هذه الزيتونة كمان؟!

مشت ببطء، ودخلت إلى عمق الجذع، وأخذت حبّات المطر تتساقط منها. جلست ووضعت صندق اللعبة في حضنها، وتساءلت حزينة وخائفة: متى سيرجع أبي وأمي؟! ونظرت إلى ركام البيت ولم ترَ أحدًا، وقالت لنفسها: بعد شوي بتعتّم الدنيا.

كان جذع الزيتونة شبه ناشف، فارتاحت مريم للأمر. كان كلّ ما في الجذع يساعدها على الراحة، خاصة الرطوبة والبرد القارس.

بعد وقت قصير بدأ التعب والخوف والبرد يتعبها ويرعبها. كانت تشعر بضوء البرق يخترق جفنيها فيما تظلّ هي تتهته من النعاس والتعب.

شيئًا فشيئًا زحف النوم إلى جفنيها فغفت وهي تحلم بأبيها وأمها والمدرسة والكتب والدفاتر التي كانت تدرس فيها. ثمّ حلمت أن أمها تحضر لها هدية عبارة عن ليغو جديد تستطيع أن تبني به بيتًا جديدًا. ربتت أمها في الحلم رأسها وكتفها، وقالت لها كما كانت تقول لها دائمًا: "دائمًا تعملين على تركيب البيوت، فلا بد أن تصبحي مهندسة عندما تكبرين!".

ابتسمت مريم وهي تحلم، فيما كان اللون الأزرق الغامق يحتلّ ما تحت جفنيها ووجهها. وابتسمت أكثر عندما سمعت صوت أمها تناديها: مريم مريم!

وبعدها همدت!

اقرأ في النهار Premium