النهار

اليمن... صراعات ومبادرات (2): درب السلام
النزاع في اليمن (أ ف ب).
A+   A-
يحكم العلاقات بين الدول مبدأ "لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة بل مصالح دائمة". وهذا المبدأ مفيد في تفسير دوافع الحكومات والقيادات وتحليلها، تقارباً وتباعداً، تحالفاً وعداوة. كما تكشف لنا المصالح أسباب الصراعات والتوافقات أو الخلافات بين القوى المشاركة. إلا أن الأمر يصبح أصعب عندما تتداخل الدوافع المصلحية والأجندات المعلنة أو الخفية ذات السمة العقائدية والعنصرية، وتلك التي ترفع لواء المظلومية والتفوق العرقي والفكري، وتفسر مواقفها بالمرويات والغيبيات والأوامر الإلهية.

وبعدما استعرضت ملخصاً لتاريخ الصراع في اليمن في المقالة السابقة، أعود الى السؤال الذي ناقشته مع نخبه من المختصين اليمنيين والعرب والأجانب: ماذا يريد العالم من اليمن؟ وماذا يريد الفرقاء اليمنيون من هذا الصراع؟

ماذا يريد الهاشميون؟

يتبع معظم سكان اليمن المذهب الزيدي الذي ينسب الى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وقد نقله الى اليمن، الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين الرسي الهاشمي الذي حارب القرامطة وعقدت له الإمامة في اليمن. والخلاف الوحيد بين هذا المذهب والمذاهب السنية الأخرى، ومنها "الشافعي" الذي يتبعه ثلث اليمنيين، هو في تفضيل ولاية آل البيت، فيما يصر الشيعة على تكليفهم.

ومنذ ألف عام، حكم الهاشميون اليمن، ولكنهم لم يدّعوا الخلافة، أو المرجعية الدينية لكل المسلمين. وانتهى حكمهم بقيام الجمهورية في أعقاب انقلاب ضد الملكية الإمامية، وحرب أهلية استمرت ثماني سنوات (1962 - 1970).

اختارت النخب اليمنية النظام الجمهوري على أمل لمّ شمل أطياف المجتمع اليمني وتحييد سلطة القبيلة، وبناء الدولة على أسس عصرية يصل فيها الى الحكم أصحاب الكفاءة والقدرة، وتشكيل قوات مسلحة عصرية تحمي البلاد وتقيم العدل، بدلاً من التشكيلات القبلية المسلحة.

لم ييأس الهاشميون من استعادة الحكم على مدى الخمسين عاماً الماضية، واستعدوا بالتركيز على التعليم والعمل في قطاعات مؤثرة، كالداخلية والقضاء والعسكر والتعليم. وعندما جاءت حركة "الشباب المؤمن" المدعومة من إيران، اجتمعوا حولها واستعادوا من خلالها مزاياهم المسلوبة، وأهمها حقهم "الإلهي" في الحكم.

ماذا تريد القبائل؟

أكبر قبائل شمال اليمن تنتمي الى "حاشد" الزيدية و"بكيل" الشافعية، ومعظمهم يسكنون المناطق الجبلية، فيما يسكن التهاميون سواحل البحر الأحمر.

أما قبائل الجنوب فمنها قبائل حضرموت، وتسكن وادي دوعن وساحل بحر العرب الممتد من حدود محافظة عدن الى حدود منطقة المهرة، قرب عمان. ثم هناك قبائل المهرة شرقاً، وقبائل المناطق الواقعة جنوب اليمن الشمالي. وجميع هذه القبائل سنّية. وتأثر بعضهم بالصوفية ولآل البيت عندهم مكانة، ولهم مدارسهم العلمية التاريخية في مدينة تريم في منطقة سيئون، شمال حضرموت.

اشتغل الحضارم بالزراعة والتجارة والصيد والنقل البري والبحري، ومن أهل عدن وقبائلها خرجت الثورة على الانتداب البريطاني، وشكلت الحكومات الاشتراكية التي حكمت بقية الجنوب بالعقيدة الشيوعية والعسكرية، وتسببت في هجرة الملايين الى الدول المجاورة.

وسادت القبائل الزيدية دولة الشمال، كما فصّلته المقالة السابقة. وهي تصر اليوم على استعادة السلطة، سواء عبر الجمهورية أم عبر الحكم الإمامي.

أما القبائل الجنوبية، فقد انتفضت في ما يعرف بالهبّة الحضرمية، ومن خلال الأحزاب والتجمعات المدعومة إقليمياً، وأبرزها المجلس الانتقالي والحزب الاشتراكي والحراك الجنوبي. وأبرز مطالبها الانفصال عن الشمال.

ماذ تريد دول الخليج؟

اعتبرت دول الخليج، وبخاصة المجاورة لليمن، نفسها معنية بأمن اليمن واستقراره وتنميته، تفادياً لتكرار الصراع الدامي الطويل بين الإماميين والجمهوريين، فقدمت الدعم المباشر للحكومات والقبائل، وقامت بتنفيذ مشاريع تنموية واستضافت ملايين اليمنيين الذين دعموا بدورهم أسرهم وبلادهم بمليارات الدولارات سنوياً من التحويلات والاستثمارات.

وقد سعت هذه الدول الى تحقيق المصالحة بين الأطراف اليمنيين، وبين الحكومة والقوى المعارضة، ومن بينها الحوثية. وبعد ثورة الشباب عام 2011 أطلق مجلس التعاون الخليجي "المبادرة الخليجية" التي ساهمت في حل الخلاف بتسليم الرئيس علي عبد الله صالح مقاليد القيادة لحكومة منتخبة يرأسها نائبه عبد ربه منصور هادي، وإطلاق مؤتمر الحوار الوطني (2013) بمشاركة جميع المكوّنات اليمنية، وانتهى بعد 10 أشهر، (2014) الى صوغ دستور جديد، تقسم فيه البلاد الى ستة أقاليم، إضافة الى العاصمتين، صنعاء وعدن، مقر الحكم الاتحادي الجديد (كما تم تفصيله في المقالة السابقة).

ماذا تريد إيران؟

بدأت إيران تدخلاتها في اليمن بعد الثورة الخمينية، ففي مطلع الثمانينات من القرن الماضي تبنت أسرة بدر الدين بن أمير الدين بن حسين الحوثي، مؤسس "حزب الحق" واستضافتها في قم لإعادة تأهيلها عقائدياً على المذهب الشيعي الجعفري، وعلى مبدأ "ولاية الفقيه".

عادت الأسرة الى اليمن لتنفيذ المهمة المطلوبة، وشكلت جماعة "الشباب المؤمن" المسلحة. وفي البداية هادنتها حكومة صالح واستغلتها في مواجهة السلفية، وعندما شكلت خطراً على الدولة، دخلت معها في ست حروب، انتهت كل منها بتغلب الجيش، واتفاقية سلام، سرعان ما نقضها الحوثي بعد استعادة قوته.

ماذا تريد بريطانيا؟

العثمانيون بعد الأحباش والفرس، حكموا شمال اليمن، واضطروا الى الانسحاب بعدما اكتشفوا أن جبال اليمن مقبرة الغزاة. ثم دخلت بريطانيا من بوابة عدن أثناء الحرب مع فرنسا نابليون، لتأمين مضيق باب المندب، بعد سيطرتها على قناة السويس ومضيق جبل طارق ومضيق هرمز. ثم بنت ميناء ومطاراً ومصفاة نفط لخدمة الأساطيل التجارية والعسكرية على الخط البحري الممتد من مستعمراتها في هونغ كونغ والهند وصولاً الى البحر الأبيض المتوسط والمحيطين، الهادي والأطلسي.

انسحبت بريطانيا من جنوب اليمن عام 1968 ولكن الحنين التاريخي بقي - على ما يبدو - وقوداً للاهتمام، إضافة الى سوق السلاح الذي انهار بعد الحرب الباردة، فكان لا بد من إشعال الصراعات الإقليمية والأخطار المهددة للأمن القومي العربي والخليجي.

ماذا تريد روسيا والصين؟

عمّق الاتحاد السوفياتي علاقته بالجمهورية الاشتراكية في جنوب اليمن، وردّت الصين بتطوير علاقتها مع الشمال. وكان الدعم السوفياتي شاملاً، فيما اكتفى الصينيون بالدعم التنموي والسياسي. واستمرت علاقاتهما مع حكومة الوحدة.

ماذا تريد أميركا وحلفاؤها؟

حرص الرئيس على عبد الله صالح على تحسين علاقته مع الولايات المتحدة وحلفائها بوساطة خليجية، لموازنة ارتباط جنوب اليمن مع السوفيات، مع الحفاظ على صداقة الصين، ثم روسيا الاتحادية بعد الوحدة. واستضاف "القاعدة"، التي دعمها سراً وحاربها علناً، في كسب الوجود والدعم الأميركي والخليجي. ونجح بأسلوب "الرقص على رؤوس الثعابين" في تأمين الوحدة، وتحقيق المعادلة الصعبة بين القوى المتنافسة، الداخلية والخارجية.

زاد الاهتمام الأميركي والغربي باليمن بعد ثورة 2011 ودخول إيران على خط الحوثي والانقلاب الذي أدخل البلاد في نفق الصراع الدامي، وشكّل بيئة آمنة للإرهاب. كما أفرز التهديد فرصة لابتزاز دول الخليج.

ماذا تريد المنظمات الأممية؟

الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية والحقوقية أدوات يستغلها الغرب في إدارة مصالحه الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. ولولا الفيتو الروسي والصيني، لحكم التحالف الغربي العالم كله. ولذلك، فلا جدوى من انتظار الحل منها أو حتى تحييدها في ملف الأزمة اليمنية.

درب السلام

ما زال طريق السلام وعراً بعد كل المبادرات الدولية خلال العشر سنوات الماضية، لأن المحركات ليست يمنية خالصة. فكما لبنان وسوريا والعراق، تحوّل اليمن ساحة صراع مفتوحة لقوى دولية تحقق مصالحها من خلال أذرع محلية. والفرق الوحيد، أن مطايا إيران لم تحقق إنجازات نظيراتها في الهلال الشيعي.

وما دام لطهران مصلحة في استغلال وكلائها ورقة تفاوضية مع محيطها والغرب، وما دام للقوى العالمية مصلحة في ابتزاز دول المنطقة وإشغالها، سيستمر الصراع حتى يحسم عسكرياً، وتقطع ذراع إيران. وبعد ذلك يمكن احتواء الخلافات المحلية بالعودة الى مخرجات الحوار الوطني اليمني، وتنفيذها تحت إشراف رعاة المبادرة الخليجية.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium