انطلاقاً من الوضع في لبنان، الذي نجحت فيه الطبقة الحاكمة بفرض سلطة قهرية الى أقصى الحدود، لأنها استطاعت هدم الدولة والقضاء على جميع حسناتها، ما أتاح لها ممارسة سلطة إكراه قسري عارية، يحدونا طرح سؤال الدولة ووظيفتها وتعدّد أشكالها.
وفي هذا المجال، لا تزال طروحات بيير كلاستر، عالم الانتروبولوجيا الفرنسي الذي توفي باكراً قبل استكمال مشروعه العلمي، حول الدولة والسلطة السياسية تثير الكثير من الجدل. لقد اعتمد في أطروحاته على القبائل الهندية لأميركا الجنوبية، حيث استنتج أنّ التنظيم الاجتماعي هو بالضرورة سياسي، وأنّ وجود سلطة سياسية لا يتلازم بالضرورة مع وجود دولة تمارس العنف.
صنّفت الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا الكلاسيكية المجتمعات إلى اثنين: مجتمعات الدولة المتطوّرة، ومجتمعات اللادولة، البدائية. سعى كلاستر إلى تحديد السمات الاجتماعية التي ستسمح له، بعد أن يأخذ مسافة منها، بصياغة أطروحات أكثر عمومية، على سبيل المثال: حول نمط الإنتاج في "المجتمعات البدائية"، يتّفق كلاستر مع استنتاجات باحثين آخرين بأنّ مجتمعات الشعوب الأولى هي مجتمعات وفرة وترفيه، كما أنّها مجتمعات لا تنظّم نشاطها الاقتصادي على نموذج اقتصاد السوق.
ركّز في أبحاثه عن السلطة على دور الزعماء في مجتمعات اللادولة "البدائية"، فهم يتحدّثون باسم مجتمعهم، ومع ذلك، يجد أنّ استخدامهم للكلام لا تأثير له: على كلّ زعيم واجب التحدّث بالكلمات، لأنّه مدين لمجتمعه بمنصبه كقائد، لكن لا تأثير لخطابه لأنّه يقول ما يعرفه الجميع بالفعل، القوانين، ولأن أحداً لن يطيعه إذا فكّر في إصدار أوامر خارجة عن التذكير بالقوانين.
ما أوصله كلاستر إذن أنّ أكثر صفة تميّز الزعيم الهندي هي انتقاص تام تقريبًا لسلطته. يقودهم في أوقات الحرب، لكن عندما يعود السلم يفقد كلّ سلطة. السؤال هنا: كيف يمكن كشف لغز سلطة تفقد وسيلة ممارسة السلطة في حركة تشكّلها بنفسها؟ الأمر هنا متعلّق بفهم غرابة استمرارية "سلطة" عاجزة تقريبًا، لزعامة دون authority قدرة.
لم يقم كلاستر بتأويل مبالغ للوقائع، بل ألقى نظرة جديدة على موادّ جُمعت من كلّ مكان تقريبًا، ومن حقب مختلفة، كونها من كتيّبات حول أميركا الجنوبية. السلطة المفارقة بطبيعتها، محترمة في عجزها. لأنّ سلطة الزعامات الهندية تأسّست كي لا تكون سلطة قسرية، يوضع الزعيم خارج دائرة التبادلات، وهذه الطريقة المبتكرة لموقع الزعيم صيغة فريدة للتأسيس السياسي: بوضعه خارج المجتمع، يجسّد السلطة السياسية لكنّه لا يمارسها. لذا بدت المجتمعات البدائية لفترة طويلة مجتمعات لا سياسة. وجد كلاستر، أنّ المجتمع يمارس السلطة باستعادة دائمة للقوانين المسنونة عند بنائه، وهذه طريقة لتأسيس المساواة: يخضع جميع أفراد المجتمع (بما في ذلك الزعيم) للقوانين الخاصة نفسها في مجتمعهم.
البيانات المختلفة جعلته يسأل نفسه حول أساليبه وممارساته، فأخذ مسافة من عمله كعالم إثنولوجي؛ فلم يكتف بطرح أسئلة حول الأساليب والممارسات التي تدرب فيها فحسب، بل تساءل أيضًا عن تخصّصاته: الإثنولوجيا والأنتروبولوجيا في النظريات الكلاسيكية، وحدّد كلاستر عدة نقاط سلط عليها الضوء وأعاد النظر فيها: الوضعانية، والاتنو مركزية، والعقل الغربي.
وضع الوضعانية في إطار مذهب التطورية، فوفقًا لذلك يتطور كلّ مجتمع من نقطة أولية حتى يصل إلى مرحلة أعلى. عندئذٍ ستكون الشعوب الأولى متطابقة مع مجتمعات البشرية الأولى، وستكون المجتمعات الغربية تتويجًا لتطوّر أيّ مجتمع. ومع ذلك، ليس هذا هو الحال: مجتمعات الشعوب الأولى، مثلها مثل المجتمعات الغربية، لها أصل وتاريخ ويتبع كلّ منها مساره الخاص.
بالنسبة إلى الاتنومركزية يجد أنّها تستصعب التعرّف على الشعوب الأولى والنظر اليها بإيجابية. فالنزعة العرقية الغربية التي يستهدفها كلاستر لا تتميز فقط بالتوصيف السلبي لجميع مجتمعات الشعوب الأولى وفقًا للمعايير الغربية (بدون دولة، بلا اقتصاد، بدون تاريخ، بدون كتابة، إلخ)، ولكن قبل كلّ شيء من خلال اليقين أنّ هذه المعايير مبنية على أساس علمي، لتكون موضوعية وعقلانية.
أمّا بالنسبة إلى "العقل الغربي"، فلدى الحضارة الغربية صعوبة في التعرّف على مجتمعات أخرى والتحاور معها، وبالتالي ترجعها إلى مجال اللاعقل: فإمّا تثقّفها أو تقضي عليها. استنتج كلاستر بأنّه يمكن للإثنولوجيا، من خلال تجديد لغتها، أن تسمح بالحوار مع الشعوب الأولى.
الجديد الذي أظهره كلاستر أن المجتمعات دون دولة "البدائية / واللاعقلانية" هي في الواقع مجتمعات سياسية، مخالفاً الاعتقاد السائد أن المجتمع السياسي لا وجود له خارج إطار الدولة.
هذه الاكتشافات لعالمية السلطة السياسية دعت كلاستر لإعادة النظر في السلطة السياسية القسرية وطاعة الاوامر التي تمارسها الدولة بطريقة مختلفة تماماً.
إذن بالنسبة له الدولة ليست النمط الوحيد للسلطة السياسية، وليس هناك نمط واحد من أنماط المؤسسات: السلطة السياسية القسرية. أراد كلاستر تحطيم الخطاب الوضعاني وإعادة الدولة إلى مكانها الصحيح: أي ان الدولة ليست في النتيجة منتهى عملية التطور الاجتماعي التي تعني تقدمًا في نمو السلطة السياسية.
ولا يفترض اعتبار غياب السلطة المقيدة بحدود مؤسسة وقانون يجعلها قابضة على وسائل الاكراه، ولا ضعف التطور التقني وتقسيم العمل، كمؤشرات عدم نضج التنظيم الاجتماعي.
ابتكارية كلاستر تكمن في تبيانه ان الشروط التقنية والاقتصادية، الغالية على قلب الماركسية، ابعد من ان تكون محدِّدَة للسطة. انها هي نفسها نتيجة لخيار سياسي، يمنع على المجتمع تشكيل سلطة منفصلة واكراهية، وانتاج فائض من الممتلكات غير الضرورية لحاجة الجماعة.
في محاولته لفهم كيف يمكن أن تنشأ الدولة، يقترح عدة احتمالات. يمكن أن يكون أحد هذه العوامل الديموغرافيا: فكلما زاد عدد أعضاء المجتمع وزادت الكثافة السكانية، فتنشأ سلطة سياسية قسرية. أو أن الأنبياء او الشامانيين، الذين استخدموا كلمتهم لإحباط ظهور الانقسام الاجتماعي، سينتهي بهم الأمر بتحويل او قلب هذه الكلمة لقوة سياسية قسرية. والاحتمال الآخر هو عكس الدَّيْن: فقد ينجح رئيس واحد أو أكثر في عكس اتجاه الدَّين الذي يدينون به لأعضاء المجتمع؛ وهذا يعني، في حين أن زعيم "المجتمع البدائي" مدين لمجتمعه، في "مجتمع الدولة" يجب على أولئك الذين يطيعون سداد ديونهم لقادتهم.
الاحتمال الأخير الذي يضعه، انطلاقاً من خطاب إتيان دي لا بويتي حول العبودية الطوعية، تصوير المشكلة في الانتقال العرضي وغير المبرر من السلطة السياسية غير القسرية إلى السلطة السياسية القسرية، أي الممر من الحرية إلى العبودية، عائد الى غرس الرغبة التي تشوّه الانسان بحيث ينسى تذكر الحرية، وبالتالي يتخلى عن السعى لاستعادتها.
لكن يجب الاشارة الى ان موت كلاستر الفجائي منعه من مواصلة ابحاثه في مكان آخر بدأه في ميدان الحرب عندما اهتم بمكانة المحاربين في المجتمع، إذ في مجتمعات قائمة على الحرب ضد الجماعات الاخرى،هناك إمكانية كي تشكل مجموعة من المحاربين جهازاً يخفي، بموجب تكوينه ذاته، إمكانية إقامة سلطة سياسية قسرية من أمراء الحرب.
يتم تلقي أعمال بيير كلاستر في المجتمع الأنثروبولوجي، بدرجات متفاوتة. يلوم البعض ازدراءه "الدولة"، ما يجعل الجمهور غير المطلع ولكن المهتم، يعتقدون أن الشعوب البدائية فهمت الدرس وقضت وقتها في "تجنب ولادة الدولة"، فيتساءلون كيف يمكن أن تستشعر "المجتمعات البدائية" بالسلطة القسرية للدولة اذا كانت لم تعرفها؟
أيضاً يجب البحث عن أصل الدولة القسرية خارج العلاقات المرضية للسادية – المازوشية لفكرة العبودية الطوعية. أما الحديث عن تقدير المجتمعات البدائية فقط لأنها استطاعت تجنب ظهور الدولة أو انها مساواتية في مجتمع تقسم فيه المهام وللرجال سلطة على النساء فغير مقنع. فأي "ديمقراطية "غريبة هذه يكون فيها الرجال محميين من السلطة ولكنهم لا يشاركون بأي شكل من الأشكال في صياغة قوانينهم الخاصة؟ وبالتالي، فإن غياب الدولة فيه أيضًا خضوع كامل، واستحالة أي مساءلة عن النظام القائم، ونهاية أي ابتكار اجتماعي يتم من خلاله الكشف عن حرية الرجال.
لكن كلاستر كان له الفضل كأول عالم أنثروبولوجيا يشكك وينتقد المكانة التي تحتلها الدولة في الاعمال الإثنولوجية، وهو من أعاد للمجتمعات غير الغربية "مكانة المجتمعات ".
وتعود كراهية كلاستر للدولة إلى استيعابه لمؤسسة "الدولة" في الانظمة الشمولية. لذا لا يمكن اعتبار السلطة السياسية كقوة إكراه أو انها "نموذج" السلطة الحقيقية، ولكنها ببساطة حالة خاصة.
فيما عدا ذلك، برزت نتيجة غير مقصودة لإصرار كلاستر على فصل "الدولة" عن "المجتمع": لقد لعب عمله دوراً مهمًا في ظهور جماعات المجتمع المدني. لأنه ساهم في إثارة الاعتقاد بأن الديموقراطية هي أولاً وقبل كل شيء مسألة تخص المجتمع المدني. لكن ذلك لا يعني الاستغناء عن الدور الضروري للدولة في تطوير وتعزيز مجتمع مدني حر وحيوي.