قال الفيلسلوف الهندي، روبندرونات طاغور، عجيب أمر شبكة القانون، يقع فيها السمك الصغير، وينفد منها الكبير. لطالما كانت العدالة الدولية منحازة لمن يسطر قوانينها، ويتحكم في أدوات تطبيقها. ولطالما نجى من مقصلة الاحكام أكابر المجرمين، وطارت رؤوس صغارهم. أو كما قال الفيلسوف الفرنسي، جين روستاند، اقتل رجلا يسمونك سفاحا. اقتل الملايين تصبح فاتحا. اقتلهم جميعا تمسي الها.
مواثيق ومنظمات أممية
إلا أن الفارق بين قرون الصراعات الأممية والدينية التي انتهت بأعظم حربين عرفتهما البشرية، وذهب ضحيتهما قرابة المئة مليون ضحية، أن قوى العالم قررت وضع المواثيق والقوانين والمبادئ الانسانية التي تنظم العلاقات بين الدول، وتفصل في الخلافات بينها، وتحمي حقوق المستضعفين. ولتحقيق قدرا واسعا وشاملا من الحوكمة، سُطّرت قوانين دقيقة، حازمة، كمواثيق جنيف لحقوق الإنسان والأسرى واللاجئين، ومعاهدات للبحار والفضاء والبيئة والمناخ والطاقة النووية.
كما انشئت منظمات عالمية، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، ومحكمة العدل الدولية، ومنظمة اليونسيف للطفولة، ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة التجارة العالمية، بهدف حماية الطرف الأضعف، وتأمين الحلول السلمية للخلافات، وإطفاء نيرانها قبل انتشارها باستخدام الوسائل الدبلوماسية والضغوط الاعلامية والسياسية. وحُددت حالات يتم فيها التدخل العسكري الجماعي والعقوبات الاقتصادية الأممية لوقف عمليات وسياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والفتن الطائفية والإرهاب، ولنشر قوات حفظ السلام وتأمين المساعدات الإنسانية.
الاعلان العالمي لحقوق الإنسان
ولعل أبرز انجازات هذا التعاون الدولي، الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صاغه في ثلاثين مادة ممثلون من مختلف الخلفيات القانونية والثقافية، واعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس عام 1948، بوصفه " المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم. وهو يحدد،و للمرة الأولى، حقوق الإنسان الأساسية التي يتعين حمايتها عالميا". وترجم الاعلان إلى 500 لغة وألهم أكثر من سبعين معاهدة دائمة، أقليمية وعالمية، لحقوق الإنسان.
وفي مادته الثانية، ينص الاعلان على أن "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته."
حقوق جودة الحياة
ويعطي الاعلان في المادة 25 "لكلِّ شخص حقٌّ في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصَّةً على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحقُّ في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمُّل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه.
وللأمومة والطفولة حقٌّ في رعاية ومساعدة خاصَّتين. ولجميع الأطفال حقُّ التمتُّع بذات الحماية الاجتماعية سواء وُلِدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار.
ويضيف في المادة 26 أن "لكلِّ شخص حقٌّ في التعليم. ويجب أن يُوفَّر التعليمُ مجَّانًا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليمُ الابتدائيُّ إلزاميًّا. ويكون التعليمُ الفنِّي والمهني متاحًا للعموم. ويكون التعليمُ العالي مُتاحًا للجميع تبعًا لكفاءتهم."
حيتان الحقوق
إلا أن هذا الاعلان التحولي في تاريخ البشرية، والعابر لحدود السيادة الوطنية، والمفصلي في التعامل الحكومي مع حقوق الانسان، لم ينج من "قانون طاغور". فطالما وجدت الحيتان وسيلة للتملص من الالتزام بالمواثيق الدولية، وأعطت لنفسها استثناءات علنية أو مستترة. فالولايات المتحدة مثلا، وهي المستضيفة لمنظمة الأمم المتحدة، صاحبة الاعلان، أعفت قياداتها وجنودها ومواطنيها من المثول أمام المحاكم الدولية في قضايا الجرائم ضد الانسانية.
وبالمثل، امتنعت الدول الراعية للنظام الدولي عن تطبيق قوانينه على نفسها. كما في جرائم أمريكا وحلفائها في العراق وافغانستان، أو جرائم روسيا في الشيشان وسوريا، أو اضطهاد الصين لمسلمي تركستان الشرقية، وإسرائيل للفلسطينين في غزة والضفة الغربية.
إزدواجية المعايير
كما ترى تلك القوى أن ما يحدث على أراضيها من انتهاك لحقوق الجاليات والمهاجرين واللاجئين والسجناء وغيرهم من الفئات المستضعفة شأن سيادي، ولا يحق لأي كان التدخل أو الانتقاد، فضلا عن المحاكمة والإدانة والعقاب. وعليه فإن جرائم كبرى كالتطهير العرقي والإبادة الجماعية والتفرقة العنصرية، كما حدث ويحدث في أمريكا وروسيا والصين واسرائيل، لا يخضع للقوانين التي تطبق على السودان وبورما وسوريا.
وفي المقابل، تصر هذه القوى على حقها في محاسبة الحكومات الأضعف ومطاردة مسئوليها ومواطنيها وتقديمهم للعدالة الدولية، إلا إذا دخلت في معادلات الاستقطاب الدولي. بالانضمام الى هذا الحلف أو ذاك، كما في حال أعضاء منظمتي الناتو وشانغهاي، أو التخادم المصلحي مع القوى العظمى، كما في حال إيران وإسرائيل. وتحصر تعريف حقوق الإنسان في أطر ضيقة مثل المعارضة السياسية والحريات الجنسية والتمرد على القيم المجتمعية. وتتجاهل حقوقا أهم، مثل حقوق التعليم والعمل والصحة والأمن الغذائي وجودة الحياة.
فتوى رشدي
تذكرت، والشيء بالشيء يذكر، هذه المفارقات خلال متابعتي لردود الفعل الغربية على محاولة اغتيال الكاتب البريطاني سلمان رشدي. فرغم أن مرتكب الجريمة ينفذ وصية الخميني ويطبق فتواه الشهيرة عام 1989، ورغم أنه من مؤيدي "حزب الله" ويحظى بدعمه وتأييده، ورغم، وهذه مهمة، أنه أرتكب فعلته على أرض أمريكية، وضد رمز ثقافي لدولة حليفة، بريطانيا، وفي سياق مخططات اغتيال ثبت تورط الحرس الثوري الإيراني فيها ضد شخصيات أمريكية بارزة، مثل جون بولتون وجورج بامبيو وصولا الى الرئيس السابق، دونالد ترامب. رغم ذلك كله فقد كانت ردود الفعل الرسمية والقضائية والإعلامية الغربية باردة و"مؤدبة" تجاه إيران. فلم نرى إدانة لصاحب الفتوى أو رؤوس النظام الإيراني أو حتى قادة الاستخبارات والحرس الثوري وحزب الله.
قارنت ذلك بالهجوم الذي لا تزال تشنه نفس الجهات على عدد من الدول العربية بدعوى جرائم ضد حقوق الإنسان، واستهداف قيادات عربية في محاكم الرأي العام، وتطبيق عقوبات سياسية عليها قبل إثبات ضلوعها في الجرم، واستخدام ذلك كورقة مساومة وضغط لتحقيق مآرب ومصالح سياسية وتجارية. وقضية المواطن السعودي، جمال خاشقجي، رحمه الله، أنموذجا.
شبكة طاغور
يصفون العدالة بإنها عمياء، ثم ينتقون بعناية من يخضعونهم لقوانينها، ويعفون أنفسهم وحلفائهم منها، ويحكّمون المصالح الذاتية في وسائل ودرجات تطبيقها. فما تم السكوت عنه طويلا وجد طريقه فجأة الى دهاليز المحاكم الشعبوية والأممية، وما يحدث كل يوم على الملأ في بلدانهم والبلدان الحليفة والخادمة يتم التغاضي عنه والتستر عليه. وهكذا تحول أعظم إعلان لحقوق الانسان توافق عليه سكان الأرض الى شبكة طاغور التي تخصصت في صيد السلمون واعطت للحيتان والقروش ممرا آمنا.
آن لضحايا إزدواجية المعايير الأممية أن يتحدوا، وآن لهم أن يدافعوا عن حقوقهم السيادية، ويطالبوا بعدالة عمياء، أو أن ينسحبوا من تحت مظلتها، ويؤسسوا منصاتهم العدلية الأممية الموازية. "ومانيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"!
أستاذ بجامعة الفيصل