سلاح الجو الاسرائيلي.
سألني مذيع الإخبارية السعودية، بعد كل ما جرى وصار، من خرج منتصراً من حرب إيران وإسرائيل؟ أجبته: أولاً في الحروب ليس هناك منتصر، فالكل خاسر، بدرجات مختلفة. وثانياً: تلك لم تكن حرباً حقيقية بل مسرحية متفق عليها حتى أدق التفاصيل. وثالثاً: المستفيد الوحيد من هذه المواجهة الدرامية هو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينيامين نتيناهو.
لنبدأ بما سُمّي حرباً بين الدولة الفارسية والدولة الصهيونية. لم يسبق في التاريخ أن حصلت مواجهة عسكرية مباشرة بين الفرس والصهاينة، بل تحالف وتخادم ضد دول المنطقة وشعوبها. وفي العصر الحديث، كانت إيران الشاهنشاهية حليفة لإسرائيل علناً، وإيران الخمينية حليفة سراً. وتنافست كلتا الدولتين على خدمة الأهداف الغربية بتقسيم المنطقة، والحيلولة دون اتحادها وتنامي قوتها ومكانتها الدولية، وبقائها دوماً تحت مظلة الحماية والحاجة للقوى الأميركية والأوروبية، واعتمادها الكلي على مصادرها الطبيعية الخام.
فطهران وتل أبيب قامتا بدور "البعبع" الذي يهدد أمن واستقرار العرب، في الخليج والهلال الشيعي واليمن من جانب إيران، وفي بقية المناطق والدول من جانب إسرائيل. وأسهم في نجاح مخططهم ثوار العرب وعساكرهم، الذين انقلبوا على الأنظمة الملكية المستقرة، وحولوا بلدانهم الى معسكرات اشتراكية تثير القلاقل في المحيط وتحرّض على الانقلابات في البلدان الآمنة، وتبرر لعواصم المعسكر الغربي تدخلها بعذر الدفاع عن مصالحها في المنطقة. وأعانتهم تلك الأحزاب والمنظمات والميليشيات التي ترفع ألوية التحرير والوحدة والمقاومة، ولا تطلق رصاصها إلا على صدور العرب، ولا تقاوم إلا الحكومات العربية.
وبين محور الشر الممتد من شرق الخليج الى شرق البحر الأبيض المتوسط، اتفاقيات عديدة، من بينها قواعد الاشتباك والخطوط الحمراء. وعلى مدى خمسة وأربعين عاماً لم يتم اختراق هذه القواعد والخطوط إلا ما ندر. وفي كل مرة يتم احتواؤها بالتوافق حول ردود الفعل المقبولة والمحتملة.
فعندما تم اغتيال قاسم سليماني، طلبت طهران من واشنطن، حسب رواية الرئيس السابق دونالد ترامب، التي لم ينكرها الايرانيون، وأكدتها الوقائع، أن تقصف الصواريخ الإيرانية محيط قاعدة عين الأسد في شمال العراق، في وقت محدد، وبإحداثيات معلنة مسبقاً، كرد اعتبار. وافقت الإدارة الأميركية، وتم القصف بصواريخ مفرغة من القنابل في الصحراء، ولم يصب أحد. وأعلنت إيران أنها حققت انتقامها، ولم ترد أميركا كما وعدت.
هذه المرة أيضاً خرقت إسرائيل قواعد الاشتباك والقانون الدولي بقصف مبنى ملحق بالسفارة الايرانية في دمشق، وبذلك تكون قد تعدّت على أرض تعتبر في العرف الدولي إيرانية. وقتلت قادة كباراً في الحرس الثوري، على رأسهم المسؤول عن العمليات العسكرية والأمنية في سوريا ولبنان.
كانت الضربة موجعة والصفعة مهينة وقاسية، فكان لا بدّ من الرد الذي يحفظ للمعتدى عليه بعض ماء الوجه، ولكن بدون إشعال حرب بين قوتين غير متكافئتين. فإسرائيل ومن ورائها أميركا وبريطانيا وفرنسا، قوة نووية وصاروخية مدمرة. وأميركا لا تريد أن تفتح جبهة أخرى تضاف الى الجبهات المشتعلة في أوكرانيا وغزة، والمواجهات المتصاعدة مع روسيا والصين.
وإسرائيل رغم تلهفها لضرب البرنامجين النووي والصاروخي الإيراني في مقتل، بدعم وغطاء غربيين، لا تأمن العواقب الانتحارية، خاصة من "حزب الله" الذي يملك مخزوناً هائلاً من الصواريخ الدقيقة لم تُستخدم حتى اليوم، ولا ترغب في فتح جبهات جديدة قبل أن تنهي ورطتها في غزة.
وعليه، فقد تم التوافق، حسب المصادر الأميركية التي تحدثت لصحف وول ستريت جورنال والنيويورك تايمز والواشنطن بوست وغيرها، عبر السفارة السويسرية التي ترعى المصالح الأميركية في طهران، وعدد من الوسطاء العرب، على أن يتم “السماح” باستهداف محدود ومرصود ومعلن لإسرائيل، يسهل التصدّي له من أساطيل وقواعد أميركا وبريطانيا وفرنسا في المنطقة، وتتولى اسرائيل عبر قبتها الحديدية المدعومة بأسلحة رصد ودفاع أميركي متقدمة ما تبقى.
وبالفعل، أعلنت طهران مسبقاً عن توقيت وطبيعة الهجوم وأهدافه، متخلية بذلك عن عنصر المفاجأة الذي تتمسك به إسرائيل في كل هجماتها، وقامت شبكة الدفاع الجوي الغربية بإسقاط ٩٩٪ من مئات الصواريخ والمسيّرات، التي أُطلقت من جنوب إيران والعراق وسوريا ولبنان باتجاه إسرائيل، وهي في سماء هذه البلدان والأردن.
أما ما وصل من صواريخ فقد تصدى له الدفاع الجوي الإسرائيلي المعزز أميركياً، ولم يصل الى الأرض إلا صاروخان، أحدهما أصاب قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل، وتسبّب بأضرار مادية، وآخر على منطقة مدنية وأصيب فيها طفل فلسطيني.
وكان رئيس الوفد الإيراني في الأمم المتحدة استبق النتائج فأعلن بمجرد تحليق الطائرات المسيّرة وقبل تحقيق أي نجاح أن الرد الإيراني اكتمل، ولم يعد هناك مبرر لمزيد من التصعيد!! وبهذا انتهت الحرب قبل أن تبدأ، وستعود الأمور الى ما كانت عليه، وكأن شيئاً لم يكن.
المستفيد من كل هذه المسرحية هو إسرائيل. فبعد أن ضاقت عزلتها وتصاعدت المعارضة الدولية لحرب الإبادة في غزة، وبدأت المطالبات بقطع الدعم العسكري وبيع السلاح لها، عادت نغمة إسرائيل المهددة من جيرانها، وواجب دعمها وحمايتها، وخفتت الأصوات الناقدة في الكونغرس الأميركي والبرلمان البريطاني، وانشغل الإعلام الدولي بالتهديدات الإيرانية للممرات البحرية وقصف إسرائيل.
وبعد أن كان الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني يلوّحان بحجب السلاح والمطالبة بتعهدات إسرائيلية بعدم استخدامه ضد المدنيين، عاد الدعم الى أعلى مما كان عليه. وتوقفت التظاهرات المؤيدة لغزة وهدأ الحراك الديبلوماسي والقانوني الدولي ضدها.
أما نتنياهو الذي كان يواجه تظاهرات ومعارضة إسرائيلية داخلية لأسلوب إدارته لحرب غزة، ومسؤوليته تجاه هجوم حماس في ٧ أكتوبر، فقد استطاع أن يوحّد الصفوف معه، ويوجّه الأنظار الى حرب وجودية أخطر وأكبر، ويلجم كل معارضة ضده.
وهكذا بقصد أو بدون، قدّمت طهران لإسرائيل طوق النجاة، وساعدتها على تجاوز تداعيات فشلها في حرب غزة، وأنقذت رئيس وزرائها وحكومته المتطرفة من حصار دولي ومعارضة داخلية. إن لم يكن هذا هو التعريف الحرفي للتخادم والتحالف السرّي فماذا يكون؟
@kbatarfi