أنتَ لا تعرفني، ولا أنا أعرفكَ، يا بولس بن صموئيل أوستر (3 شباط 1947-30 نيسان 2024).
لكنّي، مع ذلك، أراني أتنطّح زاعمًا أنّي أعرفكَ قليلًا، وزاعمًا كثيرًا وجدًّا أنّكَ صديقي وأخي، لكوننا نقيم مع الكثرة الكاثرة تحت حطب العطب الوجوديّ الذي يجمع أهل العبث مطلقًا.
ربّما ما كان ينبغي لكَ أنْ تفترض، أو تتوهّم، في أحد الأيّام، أنّ الأدب يشفي. مستحيل أنْ هو يشفي، أو أنْ هو يخلّص. الخلاص بالأدب هراءٌ بهراء. وأنتَ كنتَ طوال السبعة والسبعين عامًا من حياتكَ، ومعك أبطالكَ وشخصيّاتكَ التائهة والهامشيّة، مأسورًا، أو طليقًا، لا فرق، في مدينة الزجاج العظمى، تناضل، وتقاوم، وتسخر، لكنْ من دون جدوى.
ألم تكن قبل يومٍ من هذه اللحظة، وطوال تلك المدّة المقصوفة من شجرة عمركَ، أدرى منّي ومن كثرٍ في نواحي الأرض، أنّنا جميعنا عالقون هنا، على هذا البسيطة. أنتَ خصوصًا، يا بولس، لأنّك لم تتركْ بابًا إلّا طرقتَه، لتدقّ عنق هذا العبث (اليائس) المليء – يا للمفارقة – بالأمل المغدور. وإلّا كيف يمكنني أنْ أفسّر "ثلاثيّتكَ" النيويوركيّة الجحيميّة، و"حماقات بروكلين"، و"كتاب الأوهام"، كتابكَ، وأنتَ ممعنٌ في تيهكَ الأمضى من انطفاء شمس الأمل انطفاءً أبديًّا.
أكان ينبغي لكَ أنْ تكتب "قصر القمر"، و"موسيقى المصادفة"، لتتأكّد من ذلك كلّه؟
ربّما كنتَ تعتقد، واهمًا، أنّك لا بدّ، لا بدّ، في أحد الأيّام، من أن تعثر على الحياة أمامكَ. أيّ حياةٍ، يا بولس، أيّ حياة!. الكتابة وهم، يا بول، وأنتَ الأدرى بيننا. وربّما، أيضًا، كنتَ تعتقد أنّه عندما يغيب الأمل، أي عندما يجد المرء أنّه تخلّى عن الأمل، حتّى في احتمال وجود أمل، كنتَ تميل الى ملء المساحات الفارغة بالأحلام، وبأفكارٍ، وقصصٍ صغيرة، أو كبيرة.
وكنتَ تفسّر وحدتكَ بأنّكَ لم تكن وحيدًا. وتروح تكتب عن العزلة، متذرّعًا بأنّ عزلة بطلكَ (أو عزلتكَ الشخصيّة) ليست على طريقة يونس عندما صلّى للخلاص في بطن حوت، بل هي عزلة التخلّي. حيّرْتَني، والله، يا بولس! وخصوصًا عندما تهرب إلى الأدب، إلى الكتابة، درءًا من هول الحقيقة. كأنْ تقول عن أحد أبطالكَ إنّه كان يفعل ذلك لكي لا يضطرّ للنظر الى نفسه (أو نفسكَ)، أو أنْ ينظر الى نفسه منظورًا في عيون الآخرين.
الآن، قد يكون صار في مقدوركَ، أنْ تقول إنّ الموت (لا الكتابة) يشفي، وإنّه يخلّص، لأنّه يحرّر. هل نسيتَ أنّكَ كتبتَ يومًا، بفزعٍ عظيم، معترفًا بأنّ الكتابة بدل أن تشفيكَ (لا شفاء، يا بول، لا شفاء)، مثلما أنتَ افترضتَ، في أحد كتبكَ، فقد أبقتْ جرح وجودكَ مفتوحًا على العبث المضني، وعلى المرارات كلّها.
الآن، بات في مقدوركَ، بعد مقتلتكَ الهمجيّة بداء السرطان، أنْ تفقأ الدملة، وأنْ تقول الأشياء بدون مكرٍ روائيّ، أو مسرحيّ، أو سينمائيّ. علمًا أنّكَ القائل "من أجل أن تعيش ينبغي لكَ أن تجعل نفسكَ تموت". وهذا صحيحٌ ودقيقٌ وشفّافٌ للغاية. فقد كنتَ تموت كلّ يوم، يا أوستر، من أجل أنْ تعيش.
لكنّك كنتَ وحيدًا أكثر من اللزوم، يا أوستر. وليس صحيحًا تبريركَ للعزلة بأنّها ليست بمعنى أنْ تكون وحيدًا. لا مفرّ. لا مفرّ، من أنْ تكون وحدكَ ووحيدًا، يا صديقي وأخي. لا مفرّ.
وقد كنتَ تظنّ أنَكَ (أنتَ أو إحدى مراياكَ) في مأمن من هذه الأحداث، وأنكَ الشخص الوحيد في العالم الذي هو في منأى منها، لكن لا بدّ أن يحين وقت خيبة الظنّ، فترى الأحداث تصيبكَ كالآخرين. وقد أصابتكَ. فيا لهذا العبث المطلق!
كانت الخسارة أمرًا محتومًا منذ لحظة البداية، أيّها الكاتب العظيم. ومنذ تلك اللحظة، باشرتَ فعل "المقاومة"، مقاومة الخسارة واليأس والعبث والمرارة و... الموت، بالكتابة. وما كان ثمّة شفاء ولا خلاص. البتّة. بل زعمُ شفاءٍ فحسب.
كنتَ وحيدًا ودائمًا، ومريضًا، ومغدورًا، وتائهًا، وقتيلًا، وميتًا، وأكثر من اللزوم. وهذه أسباب كافية لتكون كتاباتكَ شافيةً لنا، ومخلِّصة. اذهبْ بسلام!