انعقدت المحكمة الفيديرالية العليا في الولايات المتحدة لمناقشة مدى الحصانة التي يتمتع بها رئيس البلاد، بعدما أدّعى كثيرون على الرئيس السابق دونالد ترامب بتهمة التحريض على الانقلاب على الدولة والديموقراطية برعايته تظاهرات 6 كانون الثاني 2021، التي شهدت اقتحاماً شعبياً لمبنى السلطة التشريعية "الكابيتول" مصحوباً بالعنف.
لأوّل وهلة، يبدو قرار المحكمة سهلاً: رئيس كان يحاول تقويض الديموقراطية واستبدالها بديكتاتوريته. إن اعتبرت المحكمة أن كلّ أقواله وأفعاله في ذاك اليوم كانت محصّنة بمنصبه الرئاسي، فإنه سيكون بإمكان أيّ رئيس مستقبلاً أن يأمر باغتيال أو اعتقال خصومه السياسيين من دون حساب، أي إن المعارضين الأميركيين سيلحقون بنظرائهم الروس الذين ما فتئوا يتعثّرون من على شرفات شققهم، أو يرمون بأنفسهم من شبابيكها ليلاقوا حتفهم.
لكن القضاة الأميركيين التسعة لم يوافقوا الادّعاء الذي طالب بنسف الحصانة الرئاسيّة، لأن ذلك يفتح الباب للانتقام السياسي ضد أيّ رئيس سابق؛ وفي أميركا خمسة منهم، وهو ما يضعف قدرة الرئيس على الحكم أثناء ولايته.
إذن هي عملية دقيقة، يتوقّف عليها مستقبل النظام السياسي للولايات المتحدة، خصوصاً الديموقراطية فيها. ومن المتوقع أن تتخذ المحكمة موقفاً بين اثنين: تسمح بمحاكمة الرؤساء لثنيهم عن التسلّط، وفي نفس الوقت تبقي عمليّة المحاسبة معقّدة حتى تقوّض قدرة الخصوم السياسيين على استخدام القضاء جوراً ضد الرؤساء.
على عكس الولايات المتحدة، في بعض دول العرب دساتير لا يتوقّف عليها حاضر البلاد ولا مستقبلها. هي مجرّد حبر على ورق، يتمّ استخدامها في المناسبات الرسمية لترداد قسم الحفاظ على الدستور والدّفاع عنه. لبنان والعراق مثالان.
ينصّ الدستور اللبناني على أن لا شرعية لأيّ سلطة تناقض العيش المشترك، وهو بند استخدمه الثنائي الشيعي لتعطيل حكم الأغلبية متذرّعاً بأن لبنان ديموقراطية توافقيّة، وبأن كل ما خارج التوافق يناقض الدستور. لكن لا قيمة للدستور ولا للتوافق أمام قوة السلاح، فوجود "المقاومة" كفصيل مسلّح أمر لا يتمتع بأيّ توافق أو إجماع لبناني، وهو ما يناقض حكماً العيش المشترك. هنا، لا يهمّ الدستور، الذي يُمكن الاستعاضة عنه بالسياسة والإشارة إلى الهدف المعلن للسلاح، أي "إسناد غزة"، أو "حماية لبنان"، أو "حماية مقام السيدة زينب" (جنوب دمشق)، أو ما يخطر في بال أصحاب السلاح، ثمّ اعتبار الهدف متمتعاً بإجماع، تحت طائلة تخوين وملاحقة، بل ربما تصفية مَن يقول بغير ذلك، وهو ما يعني أن السلاح وطنيّ لا فئوي.
ولو أن "سلاح المقاومة" يتمتّع بإجماع اللبنانيين لأمكن الحصول على الأغلبيّة المطلوبة لتعديل الدستور في مجلس النواب وتدبيج نصّ علنيّ لذلك. لكن النصوص والدساتير لا قيمة لها أصلاً أمام القوة.
وفي غياب الدستور، لا قيمة لرئيس الجمهورية ولا لانتخابه، ولا لالتزام روحيّة النص الدستوري الذي يأمر بالانتخاب في أسرع ما يُمكن لتفادي فراغ المنصب. وعلى عكس العيش المشترك، الذي يتطلّب إجماعاً، لا يشترط انتخاب السلطة التنفيذية، بما فيها رئيس الجمهورية، أي إجماع، بل أغلبيّة بسيطة فحسب، لأنّ الرئيس يُدير البلاد وسياساتها لفترة معلومة، وهو ليس تعديلاً دستورياً حتى يتطلّب إجماعاً أو أغلبيّة الثلثين.
ولأن كيفية سير البلاد يقرّرها صاحب القوة والسلاح، وهو ما يعلّق الدستور، يصبح ممكناً تجاوز الأسس الدستورية، أي ضرورة إبقاء البرلمان منعقداً حصراً لانتخاب الرئيس دون التشريع، ومنع الحكومة من الانعقاد وحصر عمل الوزراء بتصريف الأعمال. كلّ هذه الاختراقات الدستورية في لبنان والمجلس الدستوري، كالدستور نفسه، حبرٌ على ورق.
وحتى لا نفتري على لبنان، لا بدّ من مقارنته بـ"دولة مقاومة" شقيقة هي العراق. هنا قيمة الدستور أقلّ منه في لبنان أيضاً، حيث انقلبت قوة السلاح من مؤيّدة للفيديرالية إبان كتابة الدستور إلى معارضة لها اليوم. كذلك، انقلب السلاح العراقي ضد إجراء تعداد سكانيّ، خصوصاً في الشمال، لترسيم حدود كركوك، وبقيت بعض بنود الدستور العراقي معلّقة مثل في حالة إقامة مجلس شيوخ في لبنان وإلغاء الطائفية السياسية.
وفي العراق، وجدت قوة السلاح ضالّتها في قاض نصّب نفسه مفتياً دستورياً، فراح يصدر أحكام على شكل بيانات سياسيّة، تخالف، لا أسس الدستور فحسب، بل مبدأ الديموقراطية.
الديموقراطية هي حكم الأغلبية، وهو ما يعني أغلبيّة النصف زائداً واحداً؛ وعلى هذا الأساس تتشكّل الحكومات، لأنّ مدّة حكمها معلومة، ومهمّتها رسم السياسات وإدارة البلاد. أمّا الشؤون المصيرية، مثل تعديل الدستور أو إقرار المعاهدات الخارجيّة، فتتطلب عادة أغلبيّة الثلثين في البرلمان.
فائق زيدان أعلى رتبة قضائيّة في العراق نسف الديموقراطية يوم أفتى بأن تشكيل الحكومة يتطلب أغلبيّة ثلثي مجلس النواب. وزيدان هذا "فاتح على حسابه"، على قول المثال اللبناني، فهو يصدر تصريحات يقول فيها إن الفيديرالية، أي حق أيّ ثلاث محافظات إقامة إقليم ذي حكومة وبرلمان محليين، مرفوضة، فيما هو وظيفته تفسير الدستور، والدستور العراقي نفسه ينصّ، صراحة، على الفيديرالية وحق إقامة أقاليم.
وإذا كان تعطيل الحكومة والفيديرالية أمراً يسيراً، فما الذي يمنع زيدان من إطاحة خصوم طهران في العراق؟ هكذا، أبطل زيدان نيابة رئيس مجلس النواب السنيّ محمد الحلبوسي، فحلّ محلّه بالوكالة محسن المندلاوي، الكردي الفيليّ (الشيعي) في منصب مخصص عرفاً للسنة. هكذا، تم إقصاء سنة العراق من الدولة، وصار المندلاوي يتصرّف كرئيس أصيل للمجلس. ولِمَ لا، طالما أن الدستور هو ما يقوله السيد زيدان لا ما تم إقراره باستفتاء شعبي قبل عقدين؟
ومثل السنة في العراق، تمّ إقصاء الموارنة من رئاسة السلطة التنفيذية في لبنان، وصار رئيس الحكومة السني نجيب ميقاتي رئيساً بالوكالة، في بلاد صارت كلّها وكالة بوكالة بلا أصيل ولا أصالة.
الاستخفاف بالدساتير معروف في الأنظمة الديكتاتورية، ولكنه أيضاً في صلب "الإسلام السياسي"؛ فسيّد قطب، منظّر الإخوان المسلمين في مصر، هدّد في كتابه "معركتنا مع اليهود" الحكومة المصرية بحرب أهليّة إن هي وقفت بوجه الشعب المسلّح الذي قال قطب إنه كان في نيته قتال إسرائيل.
قطب تمّ إعدامه قبل ستة عقود، لكن مجموعات الإسلام السياسي المسلّح في لبنان والعراق والأراضي الفلسطينية ما زالت تهدّد بحرب أهلية في حال قامت الحكومات بنزع سلاحها وحصره بالقوات النظامية المسلّحة.
إن الفارق الوحيد بين الحضارة الإنسانية وشريعة الغاب هو الدستور والقوانين المنبثقة عنه. وتعديل الدستور، على عكس شؤون الحكم الأخرى، أمرٌ صعب نسبياً. لكن السهل هو تجاهل الدستور بالكامل، والحكم بوساطة الخطابات المتلفزة، المستندة في قوتها إلى سلاح خارجٍ على إرادة الشعب وإجماعه.
* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن