يحتاج "جولة كبرى" للمخرج البرتغالي ميغيل غوميز المعروض في مسابقة الدورة الـ77 لمهرجان كانّ السينمائي (14 - 25 أيار)، إلى نحو ساعة، كي يشهد بداية تقليعته الصريحة. هذا فيلم يحمل في داخله الكثير من النشاذ، لحظات ضياع كليّ، يضيع ويضيعنا معه، لكن في النهاية، يجد طريقه وسط الغابات. ومع كلّ الخضّات التي يمر بها، خرجتُ منه مسحوراً بعد ساعتين من القفزات بين الأسود والأبيض والألوان، بين التصوير في الاستوديو واللقطات التي أوهمنا غوميز بأنها أرشيفية، ثم بين "هو" الذي هرب و"هي" التي تتعقّب خطاه. في ساعته الثانية، ثمة أشياء نكون قد تآلفنا معها، ولا تعود لتشكّل عقبة بيننا وبين ما نشاهده. هذه ظاهرة لا تخص "جولة كبرى" فقط، بل تشمل العديد من الأفلام المعروضة هذا العام في كانّ. نحبّها رغم عيوبها، أو نبغضها رغم حسناتها. فالسينما لا تُقَاس بمقاييس جاهزة.
غوميز، الذي انطلق من برلين مع "تابو"، وتكرّس مع "ألف ليلة وليلة"، له عالمه الخاص، المتشعّب. انه صانع سينما خارج التيارات والظواهر والهواجس الحالية. تبدأ أحداث جديده في رانغون، العاصمة السابقة لميانمار الحالية. القصّة يرويها لنا شخصان بصوتيهما، وهي كالتالي: موظّف في الدولة البريطانية يُدعى إدوارد (غونتشالو وادينغتون) يهرب من خطيبته مولي (كريستا ألفايته) اذ لا يريد ان يتزوجّها، رغم اصرار الأخيرة على الموضوع، خصوصاً انها انتظرت سبع سنوات ليرتبطا.
جماليات سينما البرتغالي غوميز.
هذه هي باختصار شديد الحبكة، لكن أين سنذهب بها بعد ذلك، وإلى أي درجة سنبتعد من الخطوط الأمامية، فهذا أمر متروك لأهواء المخرج. المهم ألا تتوقّعوا حكاية تتطور على نحو تقليدي، لأنها سيعود عليكم بخيبة. صديقنا إدوارد، في تلك الأثناء، سيغفو في مدينة لينهض في أخرى، وسنتعقّبه، في رحلة مملّة ومتكررة في لحظات ومشوّقة في لحظات أخرى. كلّ شيء سينتهي في الأدغال الصينية، سترون كيف، اذا تمسّكتم بالصبر للوصول حتى النهاية.
هناك على الأقل فيلمان في "جولة كبرى"؛ الماضي الذي يحضر بجمالياته، وفيلم آخر صنعه غوميز متعقّباً خطى شخصياته، ملتقطاً الحياة اليومية للناس وسط بيئتهم الطبيعية. من هذا التضاد، يتولّد فيلم هجين، لا مرجعية له. انها حكاية رحيل، لا بقاء، وكأن شهرزاد انقلبت من فيلمه "ألف ليلة وليلة" على نفسها. "جولة كبرى" حكاية شجاعة وهروب إلى الأمام وتأجيل استحقاق، حيث الأصوات تتداخل، يصعب فصل الراوي عن الشخصيات، في خلطة مبتكرة تستحضر لاف دياز في "المرأة التي رحلت"، وهذا كله في النهاية ليس سوى ذريعة لنقد الماضي الاستعماري للغرب وادانته، من خلال شخصيات غائبة وحاضرة في آن واحد، علاقتنا بها كمشاهدين ستبقى محدودة.
غونتشالو وادينغتون مجسّداً إدوارد.
يقول غوميز: “هناك العديد من الجولات الكبرى في هذا الفيلم. هناك الجولة الجغرافية التي نراها في صور آسيا المعاصرة، والتي تتطابق مع الجولة التي تتبعها الشخصيات في آسيا المتخيلة والتي تم تصويرها في الاستوديو. هناك الجولة العاطفية الكبرى التي يعيشها إدوارد ومولي على أنواعها: كلاهما يتحركان في هذه المنطقة العاطفية التي لا تقل اتساعاً عن تلك التي يعيشان فيها جسدياً. وهناك، قبل أي شيء، هذه الجولة الهائلة التي توحّد الانقسامات على مستوى البلدان والأجناس والأزمنة والواقع والمتخيل، باختصار العالم والسينما. أريد أكثر من أي شيء آخر دعوة المشاهدين إلى القيام بهذه الجولة الكبرى الأخيرة. أعتقد أن هذا ما هي عليه السينما”.