ما يجري في الجامعات ودوائر التعليم والإعلام الأميركيّ اليوم يمثّل إعصاراً تاريخيّاً لا زال في مطلعه، و"تسونامي" عالميّاً لم تواجهه إسرائيل من قبل.
فنتيجة الحماقات الإسرائيليّة والسقطات غير المعتادة في أسلوبها السياسيّ وحساباتها الإستراتيجيّة وخطابها الإعلاميّ، تشهد الجامعات والصحافة الأميركيّة تحوّلات تذكّرنا بالثورات الطلابيّة والتفاعل الإعلاميّ ضدّ حرب فيتنام في الستّينات، وعنصريّة جنوب أفريقيا في الثمانينات، وغزو أفغانستان والعراق في الألفيّة الثانية.
وفجأة، فقدت الصهيونيّة العالميّة قدرتها على قلب الحقائق وتضليل الرأي العامّ الدوليّ، ونشر سرديّة واحة الديمقراطيّة والإنسانيّة في محيط متسلّط، متخلّف، ظالم، يصرّ على حرمان الشعب اليهوديّ من حقّ العيش في سلام، في أرض ميعاده، وأن يلقي بهم في البحر. ويستعطف هذا الخطاب الضمير الأوروبيّ الذي لم يحمِ اليهود من محرقة "الهولكوست"، وعليه تعويضهم اليوم بحمايتهم من محرقة العرب.
وساهم في إنجاح المشروع الكونيّ التحكّم في مفاصل السلطة وخاصّة دوائر المال والأعمال، التعليم والإعلام، الحكم والثورة، الأحزاب والجماعات السرّيّة.
وخلال أكثر من قرن، منذ قيام الحركة الصهيونيّة، تفشّت السيطرة والتواجد والتحالفات في معظم بلدان العالم المؤثّرة، اشتراكيّة ورأسماليّة، دينيّة ويساريّة، محافظة وليبراليّة. فمن مبادئ "ماركس" إلى رأسماليّة "روتشيلد"، ومن معاقل السلطة في العواصم الأوروبيّة والأميركيّة إلى الماسونيّة العالميّة. ومن قيادة الفكر اليساريّ إلى التحالف مع الحركة "الإنجيليكيّة".
ولقيادة الرأي العام ركّز الاستثمار اليهوديّ على السينما والمسرح والتلفزيون والصحف.
ولبرمجة الأجيال الصاعدة تمّ توفير الدعم لأكبر وأعرق الجامعات العالميّة واختراقها أكاديميّاً وتمويليّاً بالدعم المباشر للبحوث والدراسات والمنح، أو من خلال أوقاف ملياريّة. وفي المقابل تعيين الأتباع في المواقع القياديّة الإداريّة والتعليميّة، والمشاركة في تصميم المناهج الدراسيّة ووضع القوانين التي تعتبر معاداة إسرائيل وانتقاد سياساتها معاداة للساميّة تستوجب القمع والمنع والفصل.
ولأنّ المال عصب الحياة، فقد استخدمت الهيمنة على "وول ستريت" والبنوك والشركات الكبرى والمحافظ الاستثماريّة لإفساد الحياة السياسيّة والسيطرة على رموزها بالقروض والرشاوى والمصالح المشتركة.
سيطرة هذه الأمبراطوريّة على الساحة الأميركيّة، وبنسب متفاوتة على الساحات الدوليّة الأخرى، خاصّة في أوروبا الغربيّة، شجّع الأباطرة على كشف الأقنعة الراقية وإلقاء القفّازات الحريريّة، واستخدام الصوت الغليظ في التعامل مع المسيطر عليهم محتمين من ردود الفعل بقانون "معاداة الساميّة" ذي الشبكة المطّاطيّة الواسعة.
عوقب باحثون ومفكّرون وساسة بالفصل والحجر والإسقاط في الانتخابات والترقيات لمجرّد التشكيك في مسلّمات السرديّة الصهيونيّة أو انتقاد اللوبي اليهوديّ أو معارضة سياسات تل أبيب وكشف جرائم حكومتها. ورغم أنّ كثيراً منهم من أصدقاء إسرائيل وأبناء الجاليات اليهوديّة في بلدانهم إلّا أنّهم لم ينجوا من التّهم المشكّكة في نواياهم وأهدافهم.
اليوم فاز التنور وتمرّد جيل يمثّل 40 في المئة من سكان الولايات المتّحدة على القيود، وتبعهم بنسبة أقلّ من أَلِفَ الخوف وقيّدته المصلحة من كبارهم. وانتشرت المظاهرات كالنّار في الهشيم من معقل اليهوديّة العالميّة نيويورك إلى عاصمة اللوبيات المؤيّدة لإسرائيل في واشنطن، إلى مراكز الفنّ والإبداع والحرّيّة في كاليفورنيا. وقادت المسيرة كبرى الجامعات ونخبة الطلّاب من أبناء القيادات السياسيّة والاقتصاديّة في البلاد.
لحقت صحف عريقة أسّستها أسر يهوديّة ليبراليّة كـ"نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" بالركب، ونشرت لأوّل مرّة في تاريخها تقارير وآراء تفنّد الرواية الإسرائيليّة، وتمحّص ادّعاءاتها، وتطالب بوقف فوريّ للحرب، وتوفير الغذاء والماء والدواء لسكّان غزة.
ولأنّ الطلّاب وأساتذتهم والكتّاب والباحثين أذكى من أن يكتفوا بالوقوف عند الحدث الآتي، فقد عادوا إلى الأرشيف والتاريخ وفتحت ملفّات الصراع في فلسطين منذ بدايته. ورصدت استبيانات الرأي تأييد الأغلبيّة الساحقة من الإسرائيليّين لجرائم حكومتهم.
هنا تكشّفت حقائق مخفيّة وفظائع منسيّة، وتشكّلت رؤية جديدة تشكّك حتّى في حقّ إسرائيل في الوجود، وتؤيّد حركات التحرير ضدّها.
هذا هو الزلزال الهائل الذي قسّم يهود أميركا والعالم وغيرهم بين أمرين. إمّا أن يواصلوا الدفاع عن إسرائيل وجوداً وسياسة فيقفوا في القفص نفسه أمام محكمة الرأي العالميّ، أو أن يتبرّأوا منها وينجوا بأنفسهم من الأحكام الحتميّة التي ستصدر عليها.
وحتّى الآن لا تزال اللوبيات الكبرى، وأبرزها "إيباك"، ومجلس رؤساء المنظّمات اليهوديّة الكبرى، تقاتل بشراسة وتحتمي بقانون معاداة الساميّة وملياراتها المستثمرة في السيطرة على الجامعات والإعلام والأحزاب. وترتكب بصلفها وغرورها أخطاء تاريخيّة، مثل تهديد قضاة المحاكم الدوليّة والضغط على رؤساء الجامعات لمعاقبة الطلّاب والأساتذة المعارضين لإسرائيل، وتقديم قوائم بأسمائهم حتّى يُحرموا من المنح الدراسيّة والوظائف والعمل السياسيّ. وهو ما ذكّر أميركا بالحملة "المكارثيّة" المشابهة في الستّينات ضدّ الشيوعيّين والمتعاطفين مع اليسار العالميّ، وأيقظ كلّ حماة الدستور ومبادئ الديمقراطيّة والحرّيّة الأكاديميّة.
يطالب المتظاهرون بعدم قبول المنح المادّيّة من الشركات والأفراد المؤيّدين لإسرائيل والمتعاطفين معها، والاستغناء عن الأوقاف المسيّسة المسيطرة على الجامعات الأميركيّة. وهذا يضع الإدارات في مأزق لأنّ هذا يعني الاستغناء عن مئات مليارات الدولارات من أموال الدعم المشروط. ولذا كان الرفض في معظم الأحيان والتفاوض في حالات نادرة مثل مبادرة جامعة هارفارد للوصول إلى حلول عمليّة مع ممثّلي المتظاهرين.
إسرائيل في مأزق عظيم بخسارتها 85 في المئة من الشباب الأميركيّ الذي بات اليوم مؤيّداً لقيام دولة فلسطينيّة من البحر إلى النهر على كامل أرض فلسطين التاريخيّة، وليس فقط المحتلّة في 1967، وداعماً لكلّ حركات المقاومة والتحرير. وزاد الأمر سوءاً ارتدادات هذا الزلزال في الجامعات العالميّة والعواصم الكبرى ومن بينها تلك التي كانت تاريخيّاً مؤيّدة لإسرائيل، أو تحت سيطرة اليهود، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وانضمام النخب الليبراليّة في الأحزاب والإعلام ومراكز البحث العلميّ لهذا الطوفان يعني أنّ تل أبيب إن لم تغيّر نهجها فوراً ستجد نفسها في الموقف نفسه الذي كانت عليه حكومة جنوب أفريقيا العنصريّة تحت مطارق القضاة والمنظّمات الدوليّة ومحكمة الرأي العامّ، معزولة، منبوذة، مقاطَعة. وسيُضطرّ حلفاؤها إلى التخلّي عنها أو السقوط معها.
@kbatarfi