النهار

وراء الفوتبول... دفاعًا عن قلبي
ملعب ويمبلي (أ ف ب).
A+   A-
هذا المساء، العاشرة بتوقيت بيروت، يتنافس فريقان أوروبيّان في كرة القدم؛ إسبانيّ (ريال مدريد) وألمانيّ (بوروسيا دورتموند)، على نهائيّ دوريّ بطولة أوروبا، ملعب ويمبلي، إنكلترا، حيث وجدتُني في الصباح المبكر، أكتب هذا المقال، معربًا عن شغفي بالمستديرة.

 
أغرق في اللعبة حدَّ أنسى الوقت، وأين أنا، وما بي. 

تأخذني الكرة إلى ملاعبي الأولى، إلى زمنٍ كان فيه اللعب متواضعًا، والفقر جميلًا، والكَرَم طيّبًا، والدفق نهرًا، والحلم كان الانتشاء كلّه، والغموض، والتأمّل، والسحر، والسرّ المنتظَر.

وها أنا الآن، أفتّش عن اللعبة، كما لو كنتُ أفتّش عن طفولةٍ صارت إبرةً في أكوامٍ من قشّ. لكنّ ذلك لا يسرّب يأسًا إلى روحي، بل يثيرني، ويوقظ شيئًا لا يموت فيَّ، إنّما ينمو ويتجدّد، فأراني أركض وراءها، تلك المستديرة، ولا أتعب، وحين تغيب، لوهلةٍ، عن انتباه البصر، أروح ألاحقها في كواليس الوهم، وبين الأرجل، وفي الفضاء، متوقّعًا أنْ تظهر فجأةً من موضعٍ ما، فيقفز إليها قلبي، والكيان كلّه يسبق، وعينايَ تتراقصان، وروحي، كأنّي الشخص الآخر الذي ليس أنا، من فرط العمر، وتبدّل الأحوال، والنظرات.

مثل هذا الإحساس الفائق يغمرني كلّما فتحتُ التلفزيون، وأنا لا أفتحه إلّا من أجل أنْ تسرقني الموسيقى الكلاسيكيّة وموسيقى الجاز، ومن أجل الأفلام، والكرة. كرة القدم حصرًا. "الفوتبول".

قنوات الـ"توك شو" والأخبار و"أمور الساعة"، يخيفني أنْ أستهلك لحظةً من عمري عليها. لا أريد. لا أريد. مثل ذلك يُشعِرني بأنّي ذبابة، "صرماية عتيقة"، أو عضوٌ في القطيع الكونيّ، وأنا لستُ كذلك، ولا ميليشيا، ولا حزبًا، ولا طائفةً، ولستُ عضوًا في أيّ شيءٍ، البتّة، ولا حتّى في رابطةٍ للشعر أو للشعراء. 

كلّما سخر منّي أحد المثقّفين، أو آخرون، لأنّي مغرمٌ بالكرة، ازددتُ ولعًا بها، وشغفًا، ليقيني بأنّ تعلّقي بها أشبه بحبل نجاة، وبالحبّ الأوّل، ولو عُيِّرتُ بأنّي طفوليٌّ، ومراهقٌ، ومجّانيٌّ، وبلا غاية. ما أطيب هذا التعيير!

فأنا أحبّ الكرة لأنّها كرة، ولأنّها الطفولة، والغرام، والذاكرة، ولأنّي لا أزال هناك، حيث كنتُ، في الحبّ الأوّل، والطفولة، والمراهقة، والمجّانيّة الكريمة، وبلا حساب. وأحبّها، هذه المستديرة، لأنّها هي، وليس لأنّي منحازٌ إلى هذا الفريق أو ذاك، إلّا لما ارتبط من فكرة الانحياز الغابر بعمر الطفولة، ومنافساتها، وأحلامها.

اللاعبون سيلعبون هذا المساء، وسيتنافسون، وسيفعلون المستحيل، كلٌّ من جهته، ليحقّقوا الفوز.

من جهتي، يعنيني غيابي عن العالم، واحتقاري له، وانتصاري عليه، وإنْ، فقط، تحرّرًا واهمًا سعيدًا... خلال المباراة. 

من جهتي، تعنيني اللعبة. والسحر الذي فيها. والوقت الذي أمضيه، ملاحقًا الطابة، لأربح ساعتَين ذهبيّتَين من هذا العمر الضائع أكثره في وحل هذا العالم.

اقرأ في النهار Premium