لم أكن من مؤيدي الفدرالية أيام الحرب بل كنت إلى دولة مركزية ديمقراطية وعلمانية. لكن التطورات الأخيرة على مستوى البلاد حملت معها عوامل متعددة تقاطعت بعضها مع بعض لتجعلني اتبنى الطرح الفدرالي، أبرزها:
- لقد شاركت في انتفاضة ١٧ تشرين ووضعت عنها كتاباً. هذه الانتفاضة عبّرت عن نزعة شعبية وحدوية كان طموحها بناء دولة مركزية مستقلة وديمقراطية وعادلة. الانتفاضة قُمعت ومُنعت من تحقيق أهدافها من قوى متعددة، كان أبرزها واشرسها عداءً "حزب الله" بما يمثل من قوة مذهبية دينية عسكرية كادت تختصر الموقف العام في الطائفة الشيعية.
فشل الانتفاضة بالنسبة لي هو فشل بناء الدولة المركزية لسبب اصبح في صلب التركيبة اللبنانية، وهو سبب غير مرشّح لتراجع تأثيره عل مستقبل البلاد بل على العكس. وجاء تعطيل المؤسسات الدستورية من الطرف نفسه والعجز عن انتخاب رئيس بعد قمع الانتفاضة، ليضيف مؤشرا بنيوياً قوياً على افتقاد الدولة المركزية الى عوامل اشتغالها. وفاقم من الامر اتخاذ "حزب الله" قرار الحرب مع اسرائيل وربطها بالحرب في غزة، مما اطاح كلياً بفكرة وجود دولة مركزية يمكنني كمواطن أن يكون لي كلمة فيها. وأصبح مصيري ومصير باقي المواطنين، بما يعني الحياة او الموت، رهن قرار تنظيم لا تربطني به أي علاقة دستورية.
وإني اذ ارصد جميع المحاولات لإعادة تجميع قوى الانتفاضة على افكار وبرامج مكررة، لا أجد مؤشرات تدعو إلى التفاؤل، بل تؤكد العجز التام عن عملية الاستنهاض. ونصي هذا يتوجه خصيصا الى هذه الجماعات التي أتشارك معها الكثير من القيم والافكار.
- لا تُطرح الفدرالية اليوم كحاجة للانتقال من صيغة مركزية الى صيغة لامركزية، بل من حالة تقسيمية الى حالة توحيدية. "دويلة حزب الله" حالة تقسيمية على المستوى المذهبي والسياسي والامني والاقتصادي والمالي والاجتماعي والثقافي، و"الدويلة" ذات ارتباط عضوي بالدولة الايرانية. لذلك ارى في الفدرالية اليوم ذات أبعاد توحيدية تحافظ على الكيان اللبناني، على عكس الاصرار على الصيغة المركزية، التي تدمّر ما تبقى من اسس هذا الكيان.
- المشكلة مع "حزب الله" لا تقتصر على هيمنته على البلاد بواسطة السلاح، بل تتعداها الى عقيدته الدينية المكوّنة لهويته السياسية، وتناقضها مع مرتكزات ومبادىء ومفاهيم وقيم الدستور اللبناني، مما يجعل من المستحيل التوفيق بينهما الا من خلال صيغة فدرالية تحفظ له خصوصيته وخصوصية الجماعات اللبنانية الأخرى التي تتبنى الدستور اللبناني على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والقيمي. بمعنى آخر ليس من الضرورة أن تكون الفدرالية على اساس طائفي او مذهبي، بل قيمي.
- كشفت الانتفاضة عن قوى وطاقات لامركزية مناطقية للتغيير، لا زال بعضها حياً، وبالمقارنة مع المحاولات المركزية، تبدو أكثر قدرة على التنظيم والاستمرار والتطور.
- لا زلت أنادي بالعلمانية، لكني أصبحت أجد بالفدرالية عامل دفع لها في بعض المناطق، على عكس الصيغة المركزية القادرة على إدانة وخنق اي محاولة في مهدها. والقوى المناطقية الحية هي القادرة على رفع لواء العلمانية وخوض نضالات من أجل تحقيقها في بيئات ملائمة.
- يعتبر البعض أن الفدرالية غير قابلة للتطبيق لأنها تفترض الاتفاق على ثلاثة أمور مختلف عليها: العلاقات الخارجية والامن والسياسة المالية. لكن هذه الأمور مختلف عليها في الصيغة المركزية أيضاً، وبدل أن تبقى موضوع خلاف او تطبق بدون توافق، تفتح الفدرالية الباب نحو التفاوض عليها من أجل الوصول إلى ما يرضي الاطراف جميعها بحيث لا يشعر بعضها بأنه عرضة للهيمنة والإخضاع لسياسات لا يوافق عليها.
- التجارب الفدرالية في العالم كانت بمجملها ناجحة، ليس فقط في نزع عوامل الحروب المتناسلة، بل بإحداث نهضة سياسية واقتصادية وثقافية.
- لا أريد لشعبي أن يبقى حقل تجارب، ولو تحت عنوان "لبنان الرسالة"، من خلال تطبيق صيغ حكم اثبتت فشلها وأدت الى الحروب والانهيار التام على جميع المستويات. فلا شيء يمنع هذه "الرسالة" من تجديد معناها في صيغة حكم فدرالية.