تربّت في بيتٍ تكلّل بجَلال الكلمة وإباء الروح، يظلّلها فكر أبيها الأديب والقاصّ فؤاد الشايب الذي غرس في قلبها عشق الكلمات، فكرّست كلّ لحظة فراغ في يوميّاتها للكتابة، معلّلةً دوافعها في كتابها "امرأتان"* بالقول: "تعلُّقُنا بالحياة وخوفُنا من الموت والزوال يدفعاننا إلى الكتابة" (ص 53). إقبال الشايب غانم، أديبة مولعة بالكلمة، جعلتها زادها الدائم الذي لم تشعر يومًا بالسأم منه أو تبحث عن سواه غذاءً لروحها؛ جرت الكلمات في عروقها وتردّد صداها مع نبض قلبها، حتى أنّها سرقت لها الوقت من ذاتها، كونها كانت دائمًا حريصة على أداء كلّ واجباتها، من دون تقصير، وتحمُّل كلّ مسؤولياتها تجاه أسرتها الصغيرة وتجاه بيتها، كما تجاه مجتمعها الذي خدمته بما تملك من قوّة التعبير ونصاعة الكلمة ورقيّها.
في كتابها "امرأتان"، نتعرّف بشخصيّة إقبال الأديبة المدافعة عن حرّيّة المرأة، إقبال الصلبة الموقف في عرضها للواقع المزري الذي عاشته ولا تزال تعيشه شابّات ونساء كثيرات؛ ورغم صلابة موقفها وعرضها الساخر أحيانًا لواقع المرأة في شرقنا، نلاحظ رقّةُ مشاعرها وخوفها على هذا المخلوق الذي يشكّل نصف المجتمع، هذا النصف الذي نراه، من خلال قصصها، مكسورًا ذليلًا مجلببًا بالجهل ويقدَّم ذبيحة؛ لذا، جاء الإهداء "إلى كلّ امرأة تسقي من نزفها جذر المجتمع المجفّف لإنعاشه". وقد بدت الأقاصيص، في معظمها، مسكونةً بهاجس توعية المرأة لفهم حقيقة المجتمع المجحِف في حقّها والذي يجعلها ضحيّة الجهل المتوارَث حين ترضى بقدَرها الذي فرضته عليها بيئة مقيّدة بالأعراف والتقاليد؛ قدّمت لنا في كتابها لوحاتٍ واقعيّةً تضجّ بالحياة، متقنة الحبكة، غنيّة بالتفاصيل الدقيقة، والوصف الخلّاق، والألوان الصارخة؛ يزيدها تألّقًا ووضوحًا تلك التشابيه والمقاربات النابعة من فكرِ وقلبِ أديبةٍ تكشف لنا خبايا قلوب الناس بعفويّة وصدق، من دون تصنُّع.
تأخذنا الكاتبة في رحلات إلى قرى نائية وادعة، عارضةً علينا كلَّ جمالاتها، أو ما كانت تنعم به من جمالات قبل أن يجتاحها التطوّر حين واكبت العصر، فنعود القهقرى إلى طبيعة قرانا العذراء وأناسها - الطيّبين منهم وغير الطيّبين - نتوه معها في البراري والحقول، ونجوب طرقاتها مستمتعين بمصطبات بيوتها وما تزخر به من شتول وزهور يبهرنا تنوّعها ومعرفتها بأسمائها كلّها. تنقل لنا يوميّات أهلها، همومهم وأفراحهم، مواسمهم وعاداتهم التي تعرفها عن ظهر قلب، ما يوحي بأنّها عايشتها وشهدتها بأمّ العين، فنشعر بها وهي تتنشّق أنفاس القرية التي تملأ رئتيها، فتُعدينا! تحسن إقبال الشايب غانم توليد الصور البديعة المتجانسة، فتدرك أنّك أمام أديبة تتقن أن تدخلك إلى عالمها الفكريّ من بابه الواسع.
تضمّن الكتاب بين دفّتيه اثنتي عشرة قصّة عالجت الكاتبة، من خلالها، واقع المرأة في مرحلة ربّما يعتبر من يطّلع عليها اليوم أنّها باتت من الماضي، غير أنّ نمط التفكير ذاته ما زال متحكّمًا بعقول الكثير من الشرقيّين، وإن اختلفت الحكايات في بعض تفاصيلها. في "زوجة البيك!" تُظهر لنا ما يخالج النفس البشرية من أفكار وأحاسيس ومطامع، فتصوِّرها بشكلٍ دقيق مع ما يتولّد لديها من ردّات فعل تكشف خبايا الشخصيّات، لأيّ فئة أو جنسٍ أو عرقٍ انتمت، وكيفيّة تفكيرها، فتذكّرنا بأناس يعيشون في ظهرانَيْنا؛ فلئن اختلف الزمن إلّا أنّ ميول النفس البشريّة وأهواءها هي هي.
"قصّة لم تبدأ"
نتعرّف من خلال الأقاصيص أيضًا بإقبال الشايب غانم الشاعرة المرهفة الحسّ، ولكن، المخضِعة عاطفتَها لسلطان عقلها الذي يحتكم إلى المنطق.
في "قصّة لم تبدأ" تقول:
"رحلتَ مخلّفًا في غلاف وجودي ثقبًا أوزونيًّا مفتوحًا على احتمالات لا تُعَد ولا تحصى" (ص 56).
فيا لشموليّة هذه الصورة وعمقها وأبعادها! تخبرنا باختصار كيف أنّ الرجل الذي هيمن حضوره على فَلَكها يتحكّم بوجودها بالكامل، حتّى أنّ رحيله ضعضع كيانها، أثار فيه بلبلةً بل جرحًا مفتوحًا لا يندمل، فبات هذا الوجود مهدَّدًا بنيازك لا تعدّ ولا تحصى، نيازك تجذبها مشاعر جوّانيّة؛ فهي فريسة التساؤلات والاحتمالات والقدر... وكل ما قد ينتج عن هذا الغياب.
أو قولها: "...مهمّة الحروب دومًا اصطياد الأحلام" (ص 66).
وهنا نلمس المرارة التي خلّفتها الحرب في نفسها المرهفة الشاعرة، ونستشف الحكمة في نظرتها، والتحذير من مغبّة الخوض في الحروب؛ تحذيرٌ توجّهه إلى جيلٍ ربّما لم يختبر بعد ما اختبرته هي وجيلها من ويلات الحرب في لبنان.
تَحْبُك الكاتبة الأديبة في أقاصيصها الصور والأحداث بإتقان، ما يجعلنا نتماهى معها فنتلبّس الشخصيّات مثلها تمامًا، ونعيش معاناتها التي تكتبها بألمٍ أنيق غير معقّد، ولكنّه يطال عمق المشاعر؛ في "قصّة لم تبدأ" تعيد إحياء الحدث مغمّسًا بواقع الحرب المرير في منطقة الأسواق التجاريّة في بيروت؛ تصوّر لنا يوميّات شابة عاشقة تدور في فلك حبيب لا يهتمّ لوجودها، ولكنّه يبقى حاضرًا في قلبها وذكرياتها. تعود لتبحث عنه بين ما تبقى من ركام الماضي بعدما دمّرت الحرب ملعبَه وساحاتِه، وبات مسرحًا للحيوانات والحشرات التي تؤنس وحشته إذ ترافقها في زيارتها إلى موقع الجريمة التي ارتكبتها حين كسرت محبرته... نرى الحياة تعود من جديد إلى المكان، إلّا أنّ أبطال المشهد تبدّلوا، هرٌّ وجرذ، وطواط وعناكب... حتّى رأسها "تحوّل إلى مصنع نمل"، الكلّ حاضر متفاعل، إلّا "هو"، بقي كما عرفته لوحَ جليد لم ينجح إحساسها الصادق بإذابته، وتيقّنت أنّ الحبّ كذبة كان هو أوّل من اقترفها... ولم يبقَ لها منه سوى "الورق الأبيض... تنهب عذريّته بكلمات" تقول إنّها وجدتها بعد ألفي عام من البحث والضياع! (ص 68)
هكذا قدّمت لنا في "قصّة لم تبدأ" لوحةً أدبيّة متقنة السرد، جذبتنا بقوّة كلماتها وتفاصيلها الدقيقة المتناغمة، فالوطواط أحالنا إلى بيت العنكبوت، والجرذ إلى الهرّة، وبدا العرض المسرحيّ في أوجه، إلّا أنّ حضور الحبيب الغائب المجلبب بعباءة مطرّزة بالثلج واللون الأبيض والزجاج، يُخمد حرارة عاطفتها المتأجّجة التي أشعلت المشهد وأحيته، ويجمِّدها.
فريسة التساؤلات والاحتمالات والقدر!
وهكذا بين القصّة والأخرى تبدأ الحكاية بحلم أو أمل أو وعد، لا تلبث جميعها أن تتحوّل إلى أوهام، ما يؤكّد الشرخ القائم بين عالمَيْن باعدَ المجتمع بينهما بموروثاته وتقاليده، بانيًا ما بينهما جدارًا فاصلًا، بحيث يهيمن الرجل على قمّة التلّة المشرفة على عالم المرأة القابع في المنحدر، ما يتيح له أن يستمتع، من موقعه، بما شاء من عالمها، مكرّسًا شرخًا آخر، لكنّه هذه المرّة داخليّ، ضِمن عالم المرأة المقسوم على نفسه، حيث تساهم بعض النساء في رفع مداميك هذا الجدار من خلال تربيتهنّ، مكرّسات القطيعة ليس بين فكر المرأة وفكر الرجل فحسب، وإنّما في عالم المرأة نفسه المتعدّد الأوجه.
حسْب إقبال الشايب غانم أنّها حظيت بتربية منفتحة ساعدتها على فهم واقع المرأة في مجتمعاتنا، وحفّزتها على نقل صورة عن هذا الواقع لقارئاتها وقرّائها، علّها تساهم في توعيتهم لتفتيت هذا الجدار الفاصل وتعزيز دور المرأة كما الرجل.
إقبال الشايب غانم، امرأتان، صادر عن دار النهار، ط. أولى 2014.