النهار

"حارس الجمهورية": هل لا يزال حارساً؟
المصدر: "النهار"
"حارس الجمهورية": هل لا يزال حارساً؟
العلم اللبناني على تمثال الشهداء (أرشيفية، نبيل اسماعيل).
A+   A-
القاضي المتقاعد الدكتور غسان رباح
قد يكون من غير المصادفة التعرّف على محتوى كتاب (حسن الرفاعي، "حارس الجمهورية") في طبعته الثانية، عام 2023، من إعداد الأساتذة، أحمد عيّاش وجوزف باسيل وحسان الرفاعي.
غير أن المصادفة كانت صادمة يوم تعرفت على الرفاعي في منزله مؤخراً وقد بلغ السنة الثانية بعد المئة، وجلست معه ومع ولده الأستاذ حسّان لمدة تجاوزت ثلاث ساعات. فتكلم معي بكل هدوء عن أوقات قضاها في أيام طفولته وشبابه وشيخوخته، مجيباً عن أسئلتي العديدة حول تلك الأيام بحلوها ومرّها، وقد ذهب فيها كل مذهب من الصراحة والاطلاع حتى على دقائقها، وضمن صفحات بلغت ما ينوف عن ستمئة صفحة من الحجم الكبير، وقد قدم اليه العلامة الدستوري الفرنسي جوزف مايلا، كاتباً بأسلوب جامع لدقائق الإنجازات التي ولّدت لدى الكاتب والمتذكر حصيلة هذا الكتاب، قال: كرّس عقله في السياسة في خدمة الحياة البرلمانية والديموقراطية التي لا يتصور لبنان من دونها، وجعل من هذا العمل أولويته ورسالته الوطنية، وهو التزم الدفاع عن روح القانون ونصّه في بلد اشتهر بالالتفاف على القانون.
قلة من رجال السياسة ومن البرلمانيين في وسعها مجاراته باحترامه العيش في كنف "الجمهورية" وفق قواعد الدستور، إذ أصبح الاستثناء هو القاعدة في زمن جمهورية الطائف، كما أصبحت الاستثناءات المتكرّرة، والمقرّة "لمرة وحيدة" من أجل تبريرها، لازمة عند قادة حرصاء على مصالحهم فقط، منصفاً بقوله، أنه يتبدى الرفاعي رجلاً وطنياً لا يساوم، مكرساً شرفه كبرلماني في احترام ماهيته وظيفته وروحيتها، كما يظهر أيضاً رجل إنسانية وتسامح أمام المحاولة المروعة للنيل من حياته.
ويضيف شارحاً، أنه من كل القراءات القانونية التي أتيح لي الاطلاع عليها، بدت قراءة حسن الرفاعي للطائف الأكثر صواباً والتصاقاً بالقانون، عبر اعتمادها على آراء علماء فرنسيين متخصصين في دستور الجمهورية الثالثة التي أخذ عنها الدستور اللبناني الكبير، ليختم قائلاً: وما في ذلك من التصاق باتفاق الطائف، ولا يسعني إلا أن أوصي بأن يطلع عليه كل مختص في القانون الدستوري، وكل الذين ما زالوا حرصاء على ممارسة سياسة منسجمة مع القانون، سيبقى الرفاعي بين كل رجال السياسة، ذاك الذي عرف بدفاعه عن القانون دفاعاً عن "شرف الجمهورية" المنتهك بتجاوز القانون، إن لم يكن بالاعتداء عليه.
ومن فصول الكتاب السبعة يتبين أنه بذل جهداً واضحاً للتعرّف على مختلف الأوقات التي قضاها معالجاً للأيام التي قضاها من دون أن يتبين فيه القصد باطلاع الغير على سيرته ولادة وعائلياً، وإنما تشديداً على معرفة تجربته النيابية الباهرة في مختلف حقولها، مستعرضاً تلك التجربة كمرحلة تأسيسية في الشأن العام، وطريقه الصعب إلى المجلس النيابي، لافتاً إلى مناقشة البيان الوزاري لحكومة عبد الله اليافي عام 1958، وكذلك بيان حكومة الرئيس رشيد كرامي الثانية عام 1969، كما علاقته بالرئيس صائب سلام في ما سُميت آنذاك "بحكومة الشباب"، إلى العلاقة مع بعض رؤساء الجمهورية منطلقاً من عام 1970، عارضاً للخيار بين الرئيس سركيس والرئيس فرنجيه، وهو التزم التشبث بالدفاع عن قوة الوطن ووحدته، ثم العرض لتداعيات اغتيال الرئيس كرامي وهو تفرّد برأيه عارضاً لمواقفه من الاتفاقات والمعاهدات، إلى أفكار إصلاحية ومواقف لافتة على رأسها موضوع المعلوماتية وخطرها على الحريات، إلى تخوّف من أن تؤدي اللامركزية إلى فتن وتهديد بتقسيم البلاد، ثم العرض الأخير في موقعه النيابي المتميز، إلى اقتحامه للعمل الحكومي، وخصوصاً تجربته في وزارة التصميم التي أولاها قمة الاهتمام، إلى جانب مواقفه الجريئة ولا سيما منها رفضه طلب الرئيس فرنجيه، إلى توسّعه في ممارسة الصلاحيات المختلفة وخصوصاً مع مجلس الجنوب والصراع العربي - الإسرائيلي، وهو عرض لمشاريع ثقافية لم تبصر النور لأسباب سياسية غير مقنعة، وهو بذلك عرض للشفافية والديموقراطية، إلى مواقف متقدمة له من قضية الحكم والعرض لمشكلة المعلمين المصروفين.
أما على الصعيد السياسي الشخصي، فقد أثبت الكتاب واقعة محاولة اغتياله والأيام التي سبقتها، إلى مراحل العلاج من تداعياتها وإلى أسرارها بالاستناد إلى مضامينها، من منطلق الشهادات والشائعات والاعترافات والتساؤلات وعلى مختلف أشكال نقاط البحث التي عُرضت فيها.
أما الفصل الأكثر إثارة فهو الثالث ويدور بشكل لافت حول ما سمّاها "حكاية الطائف"، من منطلق العرض للتشخيص الباكر لتحلل النظام، بحيث عرض مطلب المشاركة الذي عمل عليه في عام 1973، إلى مواقفه من اقتراحات تعديل الدستور في مجمع بيت الدين عام 1974، وهو أول من طرح الاستشارات الملزمة، وقد كانت له قراءة مميزة للواقع السياسي عشية اتفاق الطائف، إلى مذكرته الموجّهة إلى اللجنة السداسية العربية عام 1989، وهو عرض لبعض المحاولات الإصلاحية قبل الحديث عن اتفاق الطائف.
وعلى إثر حوادث أيار 1973 بين الجيش اللبناني والمجموعات الفلسطينية، وارتفاع وتيرة المطالبة بالمشاركة في الحكم آنذاك ورفع الغبن عن المسلمين، كما دخول منظمة التحرير على طلب الجهات الإسلامية، برزت أفكار الرفاعي في صحيفة "لوريان – لوجور" بعنوان: "الشروط الموضوعية لمشاركة حقيقية"، أورد فيها الآتي: "إن أي تحليل لعدم استقرار الحكم في لبنان يفرض التركيز على تطور لبنان التاريخي، وهو شرح أوضاع الطوائف في ظل الحكم العثماني، الذي ميز الطائفة السنية عن غيرها، وبالتالي حكم الانتداب وهو ميز من جهته الطوائف المسيحية ولا سيما منها الموارنة، وفي الحالين وضعت الطائفة الشيعية على الهامش، حتى إن الأتراك كانوا قد تركوها لمصيرها...".
ويضيف الرفاعي، "إن مطالب المسلمين أغرقت لفترة من الزمن، إذ أن السُنة اعتقدوا أنهم وجدوا في ميثاق 1943 شُرعة التفاهم غير المكتوب، علاجاً يخلصهم من إحباطهم المزمن. وكان زمن (التنازلات المتبادلة)، فرئيس الجمهورية (بشارة الخوري) عمل على إرضاء المسلمين بينما أظهر رئيس الحكومة (رياض الصلح) انفتاحاً حيال الطائفة المسيحية، غير أن ذلك لم يكن سوى وعوداً خاوية، وما يجب تسجيله أن المسلمين الشيعة كانوا الأكثر غبناً، إذ أزيحوا عن الوظيفة العامة لوقت طويل، ومن جهته، رئيس مجلس النواب الشيعي، كان ليقوم الأمور لمصلحة طائفته، لكنه كان في حاجة إلى مسايرة الأكثرية النيابية وأخذ تأييدها، ومن هنا أعار "أذنه الطرشا" لمطلب طائفته".
إن هذا التحليل السياسي، كما عرض له الرفاعي، يفسّر القلق والمخاوف التي حفرت في قلوب المسلمين، وإنه السبب الرئيسي لعدم الاستقرار، ويقع في تعقيدات هذه الإحباطات المزمنة، ومنه انعكس الأمر على الاقتصاد السلبي في البلد ككل...
ولكن؟ ألا من علاج لهذه الحالة، يجب ألا نعزو الوضع الى ما صار عرضه، وإنما هو يعتقد أن الوضع مرتبط بالعوامل الخارجية أيضاً، وعلى اختلاف اتجاهاتها.
وهو بعد ذلك يقترح تعديلات دستورية كما عرض لها في مجمع بيت الدين عام 1974، وهي لاقت تأييد بعض النواب، بينما لاقت معارضة من الرئيس فرنجيه آنذاك الذي بادر الى القول: إذا كان ثمة من يعارض رأي الوزير الرفاعي، فلنسمعه. والرفاعي كان أول القائلين باستشارات ملزمة، وهو أودعها ضمن مجموعة إصلاحات عام 1974؛ وكأنه يصرح بها اليوم، ومن خلال المقابلة التي عرضت على "تلفزيون لبنان" بتاريخ (17/10/1988)، والتي يمكن تلخيصها بالآتي(1)؛ وبأصولها العامة، كما عرضت آنذاك، الأمر الذي يظهر شفافيته صاحب المقابلة وإخلاصه في العرض لها تتابعاً من دون زيادة أو انتقاص:
- ما نعيشه ليس وليد عام 1975، وإنما هو تراكمات متعددة وشذوذ في تطبيق النظام، (وهذا لا يزال صحيحاً حتى اليوم).
- الممارسة كانت فاسدة منذ عام 1943 (وهذا صحيح كذلك حتى ذلك الزمن).
- سياسيونا سخّروا الدستور لمصالحهم نصاً وروحاً (وهو أمر صحيح كذلك).
- ويضيف مؤكداً الاقتراح بتعديل دستوري لإدخال كل الأعراف إلى الدستور (وهو مذهب صحيح ومطلوب من اليوم).
- إننا خالفنا النص خدمة لمصالحنا ونحن لم نطبق الأعراف، إلا عندما كانت تخدم زيداً وعمراً.
مضيفاً، إن نظامنا على عيوبه أفضل الأنظمة الديموقراطية، الأمر الذي يوافق عليه خبراء عدة في الأنظمة المطبقة.
- إن التمثيل السياسي لم يكن يوماً سلمياً (وهذا صحيح بالمقارنة والتطبيق). ويضيف، إنه يجب أن نستعيد الديموقراطية الصحيحة لتسود أحكام الدستور.
- إن نظامنا جمهوري ديموقراطي برلماني، وليس بالإمكان أن يستمر بلا هذا النظام، بسبب حرماننا الأحزاب السياسية وبسبب النظام الطائفي، لأنه لا يوجد نظام طائفي في لبنان وإنما يوجد مصالح مختلفة.
- ولا صلاحية لمن هو غير مسؤول سياسياً.
ويضيف الرفاعي متسائلاً: كيف يمكن لرؤساء الوزارة المسلمين المطالبة بمشاركة من هو غير مسؤول وبالتالي لا صلاحية له وبالتالي، إن الصلاحيات في يد الوزراء مجتمعين في مجلس الوزراء.
- لقد استعرض رؤساء الحكومة رؤساء الجمهورية الذين مارسوا صلاحيات ليست لهم، مضيفاً، إنه لم يربح رؤساء الجمهورية، بذلك، وإنما خسر لبنان، ومن تنازل خسر وخسر لبنان معه.
- وفي مرحلة الوجود السوري في لبنان قال بصراحة واضحة أنه يريد علاقات طبيعية وليس علاقات مميزة مع السوريين.
- وهو اتخذ موقفاً قاسياً من أمراء السياسية، معتبراً أن ممارستهم لا تؤمن عدالة في كل مجال، لا في الاقتصاد ولا في الوظائف ولا تعطي دوراً للكفاءة.
وأضاف، أنه لا يمكن أن نرجو من العرب مساعدة كل مشاكلنا وهم مختلفون في ما بينهم، وهو أمر صحيح بالنسبة إلى الغرب وبخاصة الحكومة الفرنسية، وأن من الأجدى المطالبة بذلك لحل المشكلة الفلسطينية ليس إلا!
عند سماعنا لما أورده الأستاذ الرفاعي في مقابلته، هل بالإمكان ألا نتساءل، لم الأنظار أكثر من أجل الانخراط في عملية حوار مستمر ومنهجي، مع تشكيل لجان وطنية من أصحاب الكفاءة في مختلف المجالات الدستورية والقانونية والاجتماعية والثقافية والتربوية من أجل بناء لبنان الغد معاً؟
كذلك القول أن القيم والكفايات لا تعوزنا في هذا البلد الصغير، إذ يكفي أن نضع أنفسنا على السكة وعلى درب التقدم المطلوب!
ونختم بالإجابة في صيغة السؤال: ألا يجب علينا من شرق البلاد إلى غربها، التسليم بهذه الحقيقة، وأن نباشر منذ الآن (منذ عام 1988)، وضع الآلية التي تقودنا إلى تحرير بلدنا وإعادة توحيده والمحافظة على نظامه البرلماني والديموقراطي؟
أما العناوين التي وردت لاحقاً، فإنها أدرجت كالتالي ويمكن قراءتها بالتفصيل كما يأتي:
- بعض المحاولات الإصلاحية قبل الطائف.
- إقرار اتفاق الطائف في مطار القليعات في 5/11/1989.
- إقرار التعديلات الدستورية في 21/8/1990.
- الطائف ما له وما عليه.
- تداعيات الطائف.
- ملاحظات حول مقدمة الدستور.-
- إشكاليات انتخاب رئيس الجمهورية.-
- أهم ما يؤيده الرفاعي ويعارضه في اتفاق الطائف.-
- - الإحباط المسيحي بين النص والواقع.
إن قراءة الكتاب على أنه مجموعة من الأحداث الخاصة وتلك العامة، واستبعاده عن السيرة الذاتية، يوصلنا بشكل أو بآخر إلى استنتاجات مختلفة حول ما أراد الكاتب والمستكتبون إثباته وجعله مبادرة عامة وموسوعية كونه مرجعاً يقتضي العودة إليه في زمانه وملاحقه. وهو احتوى على الحقائق التاريخية المطلوبة في معرفة شاملة لماضي لبنان السياسي ومستقبله المتوقع، لاحقاً.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium