يوسف مرتضى
التاريخ إن حكى...
في الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاده، لا بدّ من التوقف عند محطات مهمة من تاريخ لبنان الحديث للإضاءة على دور وأهمية وجود جورج حاوي، لا كقائدٍ مميز للحزب الشيوعي اللبناني فقط، بل كزعيم وطني تتجاوز اهتماماته وحساباته المصالح الحزبية والشخصية الضيّقة، لترتقي إلى المصلحة الوطنية قبل كلّ شيء.
فالمصلحة الوطنية هي الهدف الأساسي في مفهوم جورج حاوي لوجود الحزب أصلاً، ومن هذه الخلفية بالذات كانت ممارسته للعمل السياسي من داخل الحزب ومن خارجه.
ما أن وضعت الحرب أوزارها في العام ١٩٨٩ على خلفية اتفاق الطائف، حتى بادر جورج حاوي إلى تجاوز متاريس الحرب الأهلية بين الشرقية والغربية، وزار جعجع في غدراس، كبادرة حسن نية ومقدّمة للمصالحة الوطنية التي أصبحت شغله الشاغل طوال عقد التسعينيات من القرن الماضي.
اتفاق أميركي-سوري على إقصاء الشيوعيين
وفي العام ١٩٩١، أذكر أنه عندما تقرّر ملء الشواغر النيابية بالتعيين، زار السفير الأميركي في لبنان الرئيس عمر كرامي عشية اجتماع مجلس الوزراء، الذي كان على جدول أعماله تعيين النواب، وقال له سقطت الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وأنتم تنوون تعيين الأمين العام للحزب الشيوعي جورج حاوي نائباً في البرلمان اللبناني؟ هذا أمر مستغرب، ولا يجوز. على الإثر، اتّصل الرئس كرامي بمرجعه السوري، ونقل إليه موقف السفير الأميركي، فاستجاب السوري والرئيس كرامي للطلب الأميركي؛ وفي جلسة مجلس الوزراء التي عقدت لغرض تعيين النواب، الوزير الوحيد الذي صوّت مؤيّداً تعيين جورج حاوي كان الدكتور ألبير منصور. وهكذا أقصي بعد ذلك جورج حاوي والحزب الشيوعي عن السلطة بقرار أميركي-سوري، وبموافقة حلفاء سوريا من اللبنانيين، لأنه داعية جمع ومصالحة ووحدة وطنية.
اغتيالات "حزب الله"
وكان سبق مرحلة اتفاق الطائف أن تعرّض عدد من كوادر الحزب الشيوعي للاغتيال على يد "حزب الله" في عام ١٩٨٧، وأوّلهم الشهيد المفكر حسين مروة "أبو نزار".
وهنا أقتطع فقرة من رثاء القائد جورج حاوي للشهيد حسين مروة في ١٢/٠٣/١٩٨٧ للدلالة على مضمون معتقده الفكري والسياسي:
"…إن طرحنا الفكري والسياسي هو المستهدف، لأنه الأكثر استجابة لمصلحة الجماهير، هو الأكثر قدرة على التحوّل إلى تيار جارف يطيح بأشكال الممارسات الخاطئة. نحن لسنا مخيّماً، ولا طائفة، ولا منطقة جغرافية، ولا موقعاً عسكرياً، نحن قضيّة، وقضيتنا ليست قضية حزب فقط، إنها قضية كلّ الوطنيين، قضية الوطن، قضية الأمة. ولم نكن في دفاعنا عن أنفسنا ندافع عن حزب، بل عن هذه القضية كما نفهم، ونعيش. كنا مجبرين على الدفاع عن أنفسنا...".
وأذكر أنه في العام ١٩٨٨ عندما تدخّل المغفور له السيد محمد حسين فضل الله مع المرحوم الرفيق كريم مروة لترتيب مصالحة بين الحزب الشيوعي و"حزب الله"، كيف سارع أمين عام الحزب الشهيد جورج حاوي إلى تلقّف المبادرة وإجراء المصالحة من خلفية أن أولويتنا الوطنية تقتضي حصر الجهد في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولإبداء حسن النية، وإعطاء المصالحة بعدها القاعدي، كلّفني المكتب السياسي بإلقاء كلمة باسم الحزب الشيوعي في مهرجان أقامه حزب الله في حارة حريك لمناسبة تأسيسه في العام ١٩٨٨، وخطب فيه أمينه العام الأسبق الشيخ صبحي الطفيلي.
وأُذكّر للمناسبة أيضاً ببعض مبادرة الشهيد جورج حاوي الوطنية التي أقصي فيها هو وحزبه عن السلطة ودفع حياته ثمناً لها.
تطييف المقاومة
في العام ١٩٩٧، عندما التقى بالسيد نصرالله، وكنت برفقته، وكان في حينها خارج قيادة الحزب، طرح عليه تشكيل مجلس أعلى لقيادة المقاومة من مختلف مكوّنات الوطن لاحتواء فكرة تطييف المقاومة، التي ستقسّم البلد، بدل أن تكون مهمّتها توحيده. طبعاً، المبادرة رفضت، عندما أجاب السيد أنّها تتطلّب موافقة السوري.
اغتال الرئيس رفيق الحريري
وأذكر أنه إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولم يكن وقتها جورج حاوي أميناً عاماً للحزب، اتصل بي، وكانت تجمعني به شخصياً علاقة خاصّة ومميّزة، فزرته في منزله، حيث تلا على مسمعي اقتراحاً من أربع نقاط، رأى أنّها تشكّل حلاً إذا اعتمدت من القوى النافذة لدرء الفتنة التي ستنجم عن ارتدادات الزلزال الذي أحدثته جريمة اغتيال الرئيس الحريري كما سمّاها. وقال لي سوف أرسلها للسيد نصرالله، للرئيس بري، وللرئيس الأسد. قلت له مبادرة ممتازة، ولكن ماذا تملك من تأثير اليوم، وأنت خارج قيادة الحزب؟ أجابني "أكون قد أرحت ضميري". وفعلاً، أرسل مبادرته للسيد نصرالله، عبر النائب علي عمار، وسلّمها بنفسه للرئيس بري، كما أرسلها للرئيس الأسد عبر ممثله في لبنان رستم غزالة.
بعد ذلك بعدة أيام، اتصل السفير الفرنسي بجورج حاوي، وطلب اللقاء معه بتكليف من الخارجية الفرنسية للوقوف على رأيه بكيفية التعاطي مع نتائج جريمة اغتيال الحريري. أخبرنا حاوي على الإثر، في لقاءٍ جمعنا به، ضمّه والرفيق مصطفى أحمد، بخلاصة اجتماعه بالسفير الفرنسي، حيث اقترح على الفرنسيين التوقّف عن اتهام السوريين باغتيال الرئيس الحريري، والطلب إليهم استبدال الرئيس لحود بواحد من اثنين، نسيب لحود أو جان عبيد رحمهما الله. وهذا الاقتراح كان من ضمن النقاط الأربع في مبادرته التي ذكرتها أنفاً. أجابه السفير الفرنسي بأنهم على قطيعة مع القيادة السورية، ولا يستطيعون طلب ذلك منهم. نصحهم جورج حاوي بأن يطلبوا ذلك من القيادة المصرية التي تجمعها بالسوري علاقات جيدة، كي تقوم هي بتبنّي الاقتراح وعرضه على القيادة السورية.
وبموازاة ذلك، وحرصاً منه على لملمة الأوضاع وإطفاء نار الفتنة بأسرع وقت ممكن، قام حاوي بمبادرتين، الأولى الاستعانة برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لتسويق فكرة استبدال الرئيس لحود، حيث اعتبر التمديد له، وحالة التشنج التي كانت قائمة بينه وبين الرئيس الحريري، وكانت تسعّر نارها الأجهزة الأمنية المشتركة، في المرحلة التي سبقت جريمة الاغتيال، قد طغت على المشهد السياسي في البلاد، ولا بدّ من إعادة التوازن بإزاحة لحود؛ والمبادرة الثانية هي أن قام بنفسه بزيارة السفارة المصرية، وسلّم ملفاً للقيادة المصرية، يتضمّن مقترحه الذي قدّمه للفرنسيين. كان ذلك في ١٨/٠٦/٢٠٠٥، واغتيل الرفيق جورج في صبيحة ٢١/٠٦/٢٠٠٥.
أحزاب ١٤ آذار ونظام المحاصصة
حاولت مع رفاقٍ آخرين من المعارضة في الحزب الشيوعي "حركة الأنقاذ" متابعة مبادرة الشهيد جورج حاوي، فحضرنا -نصير عصمت، طارق ضاهر وأنا باسم "حركة الإنقاذ"- اجتماعاً موسعاً لـ١٤ آذار في البريستول، حيث قدّمت مداخلة في ذاك الاجتماع، ذكّرت فيها بمبادرة جورج حاوي التي ذهب ضحيّتها، وطلبت من المجتمعين تبنّيها كخيار للخروج من تداعيات اغتيال الرئيس الحريري. أيّد اقترحنا من بين الحاضرين باسم السبع ومروان حمادة، ورفضه الرئيس أمين الجميل محتجّاً بموقف المرحوم البطريرك صفير الرافض لإسقاط رئيس الجمهورية في الشارع.
وكانت أول خيبة أملٍ لنا يومها بالقوى السياسية، التي هيمنت على قرار حركة ١٤ آذار، وتوجّتها بالتحالف الرباعي وتكريس نظام المحاصصة في السلطة، الذي أوصل البلاد إلى ما نحن فيه اليوم من إفلاس للدولة، ومن نهب أموال المودعين وتفلّت من الجريمة بتسييس وتعطيل القضاء وتحلّل مؤسسات الدولة.
هذا الواقع المزري الذي تديره سلطة مافيوية يحيي في ذاكرتنا أهمية وجود قائد وطني كجورج حاوي الذي اغتيل لأنه كان داعية للجمع الوطني، متجاوزاً سياسات التآمر عليه وعلى الحزب الشيوعي من النظام السوري وأدواته اللبنانية.
الشهيد جوج حاوي كان وسيبقى حياً في ضمائر الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم، وسوف يبقى إرثه الفكري والنضالي مدرسة ننهل منها لمتابعة النضال من أجل بناء الدولة المدنية التعددية الديمقراطية العادلة في لبنان مهما كانت التضحيات.
المجد والخلود للشهيد الحبيب الرفيق جورج حاوي.