أَنظرُ إلى الانتخابات التشريعيّة الفرنسيّة من بعيد، من بلاد لم تعد تجرِي فيها انتخابات رئاسيّة أو بلديّة، وربما لاحقًا نيابيّة. لكن ذلك لا يمنعني من الشعور بقربي وقرب الكثيرين من المواطنين اللبنانيين ممّا جرى في فرنسا، وقدرتنا على الاستفادة، ولو نظريًّا في المرحلة الأولى من بعض الدروس، لا سيّما أن هذه الدروس تأتينا من بلاد تشرَّبنا مبادءها وقيمها في مدارسنا ورفعناها إلى مستوى المواد الدستوريّة.
بداية، حصلت الانتخابات في ظلّ انقسام وطنيّ حادّ لم تشهده فرنسا من قبل. وهذه المرّة ليس انقسامًا بين موالاة ومعارضة أو بين يسار ويمين على توجّهات سياسيّة وبرامج، بل على المبادىء التي تقوم عليها الجمهوريّة الفرنسيّة منذ الثورة الفرنسيّة.
كانت التوقّعات تشير بمعظمها إلى انتصار اليمين المتطرّف الذي يحمل قيمًا مناهضة أو على الأقل مشككة بقيم الجمهوريّة، أي إن الحدث كاد يكون بمثابة انقلاب في البلاد "بطريقة ديمقراطيّة". مع ذلك، قرّر الفرنسيون، شعبًا وسلطة، إجراء الانتخابات كطريق وحيدة لتقصّي خيارات الشعب ولتبيان وتحديد مسار المستقبل.
هذا ما لم يحصل في لبنان بل ما حصل هو عكسه تمامًا. في لبنان أيضًا انقسام وطني حادّ، تجاوز هذه المرّة حدود الانقسامات الطائفيّة التقليديّة إلى انقسام سياسي يطال القواعد الدستوريّة، وفي صلبها مبادىء الجمهوريّة، وعلى رأسها الانتخابات.
دوافع تعطيل الانتخابات تستقي جذورها من هذا الانقسام الوطني الحادّ، ومن عدم اعتماد الديمقراطيّة والانتخابات كطريق وحيدة لتحديد مسار المستقبل، بل اللجوء إلى القوة كوسيلة ضغط فعلية أو رمزية. الخلاف على الأسماء أصبح هامشيًّا أمام معضلة رفض مبدأ الانتخابات بحسب الآليات التي نصّ عليها الدستور، ومحاولة استبداله بمقولة الحوار أو التشاور، المخالفة لمعنى الديمقراطيّة، والتي تعيدنا إلى أنظمة ما قبل بناء الجمهوريّة، أو بعد بنائها واستبدالها بنظام تسلّطيّ، أو استخدامها لممارسة الاستبداد عن طريق مخالفة الدستور بقوّة السلاح.
وقد جاء تعطيل الانتخابات الرئاسية بعد تعطيل إمكانية قيام حكومات أكثرية نيابية، من خلال الإصرار على حكومات وحدة وطنية، أي عملياً تعطيل قيام معارضة نيابية، وهذا ما يعطّل تلقائياً النظام الجمهوري البرلماني الذي نصّ عليه الدستور.
الذي انتصر في فرنسا ليس اليسار، وإن كان حقّق تقدّمًا، وجاء في المرتبة الأولى بين الكتل والتحالفات، لكن من دون الحصول على أكثريّة برلمانيّة لا تزال بعيدة. الذي انتصر هي مبادىء الجمهوريّة، ومن قلب كل التوقّعات هي "الجبهة الجمهوريّة"، التي تشكّلت قبيل الدورة الثانية. معظم التحليلات ركّزت على دور الجمهوريين بشكل عام، كما أن تبادل الأصوات بين الحلفاء – الأعداء، ماكرون – الجبهة الشعبيّة اليسارية، جاء باسم مبادىء الجمهوريّة وفاق كل التوقّعات.
المادة الأولى من الدستور الفرنسي تعرِّف فرنسا بأنها "جمهوريّة غير قابلة للتجزئة، علمانيّة، ديمقراطيّة واجتماعيّة".
من هذا التعريف استُخرِجَت المبادىء الآتية:
- سيادة الجمهوريّة التي تؤمِّن تطبيقاً موحّداً للقانون على جميع المواطنين، وعلى كامل الأراضي الوطنيّة. لا يحقّ لأيّ شخص أو جماعة أن تعطي نفسها مسؤوليّة ممارسة السيادة الوطنيّة. وحده الشعب يمارس هذه السيادة من خلال ممثليه أو عن طريق الاستفتاء.
- علمانيّة الجمهوريّة النابعة من مبادىء حريّة المعتقد والمساواة بين المواطنين أمام القانون. وهذا يفترض فصل الدين ومؤسساته عن الدولة.
- ديمقراطيّة الجمهوريّة التي تفترض احترام الحرّيات العامّة واختيار مختلف السلطات عبر الاقتراع العام المتساوي والسرّي.
-الصفة الاجتماعيّة للجمهوريّة النابعة من التأكيد على مبدأ المساواة، والتي تؤدّي إلى التضامن الاجتماعي والعدالة الاجتماعيّة.
عادة تُلخَّص مبادىء الجمهوريّة بشعار الثورة الفرنسيّة: "حريّة، مساواة وإخاء"، وهذا ما دافع عنه الفرنسيون بوجه تيّار لا يعترف بالديمقراطيّة كنظام حكم لا بديل عنه، وينادي بالحدّ من الحريات، ويروّج للتمييز بين المواطنين، وللعنصريّة على أساس الأصول الوطنيّة أو الإثنيّة أو الثقافيّة.
لبنان ليس فرنسا، صحيح. لكن الباب الأول من الدستور اللبناني ينص على أن: "لبنان جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة، تقوم على احترام الحرّيات العامة، وفي طليعتها حريّة الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل".
مبادىء الجمهوريّة الفرنسية بمعظمها أكّد عليها دستورنا، وهي مهدّدة من جهات سياسيّة وعسكريّة فاعلة تتبنّى عقائد دينيّة ترفض صراحة هذه المبادىء، وتشكّل بأفكارها وممارساتها خطراً على وحدة البلاد وديمومة الكيان اللبناني. وهي من خلال تعطيلها للانتخابات الرئاسيّة، راحت تشوّه مفهوم الانتخابات نفسه، طاعنة بالمبدأ التأسيسي الأول الذي تقوم عليه الجمهوريّة.
التمسّك بالانتخابات الرئاسيّة وبمفهوم الانتخاب كما نصّ عليه الدستور، يجب أن يترافق مع التمسّك بكامل مبادىء الجمهوريّة المهدّدة. وهذا ما يوجب عندنا أيضًا قيام جبهة جمهوريّة عريضة، ممّا يتطلب جباهاً عالية قبل كلّ شيء.