النهار

ما يحدث في أميركا لا يبقى في أميركا
مناصرو ترامب.
A+   A-
عبّر رئيس وزراء المملكة المتحدة الجديد كير ستارمر من أمام مقرّ إقامته في شارع داونينغ 10 الأسبوع الفائت عن موقف مطمئن حين قال "البلد أوّلًا والحزب ثانيًا". وفي الوقت الذي يشلّ فيه الاستقطاب والانقسام الحادّ أبرز ديمقراطيات العالم، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة، يُرسل هكذا موقف إشارات مطمئنة إلى الناخبين، كما إلى المستثمرين الأجانب والشركاء والحلفاء حول العالم. إنّ الوقت كفيلٌ بأن يُظهِر ما إذا كانت حكومة حزب العمّال ستبقى على موقفها هذا. 
 
وللأسف، لا ينطبق الأمر نفسه على المناظرة الرئاسية الأميركية التي حدثت الشهر الفائت، حيث كانت حقّاً مخيّبةً للآمال. 
 
كنت أودّ كتابة مقال ببعض الأفكار الأولية مباشرةً بعد انتهاء الـ٩٠ دقيقة المؤلمة والتي اصطدم خلالها الرئيس الديمقراطي الحاليّ جو بايدن مع منافسه المرشح الجمهوري دونالد ج. ترامب، ولكنني فضّلت عدم الكتابة في ذلك الوقت. أمّا لماذا امتنعت عن التعليق؟ إلى جانب بعض الكلمات المخيّبة للآمال التي تفوّه بها المرشّحان عن فلسطين، رأيت أنّه سيكون من غير المناسب لي بصفتي رئيس تحرير صحيفة سعودية أن أعلّق على الموضوع. ففي نهاية المطاف، إنّ موقف المملكة كان وسيبقى دائمًا ينصّ على عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وعلى أنّ الحكومة السعودية ستعمل عن كثب مع أيّ رئيسٍ يختاره الشعب الأميركيّ. 
 
ولعلّ حكومة بايدن خير مثال على ذلك. فقد اعتقد كثيرون أنّ السعودية ستمتنع عن العمل مع بايدن وفريقه بعد كلّ الأجواء المُحتدمة والعداوة التي شهدناها قبل انتخابات عام 2020. ولكن، ما الذي حدث بالفعل؟ في الواقع، وبفضل السياسة السعودية الحكيمة والصبورة والبراغماتية، تمكّن البلدان من الاتفاق بشكلٍ كبير على المسائل المرتبطة بمصالحهما المشتركة ورغبتهما بنشر السلام والازدهار في جميع أنحاء المنطقة. علاوة على ذلك، إنّ المصالح التجارية والاقتصادية التي قد تنتج عن اتفاقٍ أميركيّ-سعوديّ محتمل حول الضمانات الأمنية والمساعدة في مجال الطاقة النووية السلمية، سواء أتمّ تعزيز العلاقات مع إسرائيل أم لا، تُعتبر هائلةً. أمّا إذا كان سيتمّ إبرام هذا الاتفاق بالفعل أم لا، فهذا يُشكّل موضوع نقاش آخرَ. حيث تكمن الفكرة في أنّ هذا الإنجاز قد حدث مع إدارةٍ اعتبر الكثيرون على نحوٍ خاطئ أنّ المملكة تعارضها. ولو أنّ ترامب قد فاز بالانتخابات الرئاسية عام 2020، لما كان اختلف الموقف، ولكانت السعودية عملت بالقدر نفسه على الارتقاء بالعلاقات التي تربطها مع أكبر وأقوى شريك لها.
 
لماذا اعتبرتُ المناظرة الرئاسية التي حدثت في 27 حزيران/ يونيو مؤلمةً؟ لقد كان مزعجًا بالنسبة إليّ رؤية مدى قلّة الاحترام الموجّه لبايدن الذي قال لاحقًا إنّه ببساطة لم يكن يشعر بأنّه على ما يرام في ذلك اليوم. فسواء أأحبّه المشاهدون أم لا، لا يمكن أن ننكر أنّ هذا الرجل أعطى كلّ ما لديه لبلده، وفي حين أنّه اقترف بالتأكيد كمًّا من الأخطاء التي أشار ترامب إلى معظمها، إلّا أنّها لا تبرّر الاعتداءات الشخصية والصور الساخرة عبر الانترنت، والتعليقات المسيئة للمسنّين التي تستهدف سياسيًّا مُخضرمًا وقائدًا مُنتَخبًا مثله. 
 
وإذا كان بايدن سيختار الانسحاب والسماح لمرشّحٍ آخر بمواجهة ترامب، فهذا الأمر يُعدّ شأنًا داخليًّا ويعود القرار فيه إليه وإلى حزبه. ولكن، ممّا لا شكّ فيه أنّ ترامب خرج من المناظرة الرئاسية وهو يبدو أكثر تحضيرًا، وهذا ما زاد نسبة داعميه في استطلاعات الرأي. ومن الصحيح أيضًا أنّه خلال فترة رئاسته، أنجز الكثير في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية لبلاده، لا سيّما مع الصين ومن خلال الاتفاقات الإبراهيمية في الشرق الأوسط، إضافةً إلى التخلّص من بعض أفظع الإرهابيين المطلوبين على وجه الأرض، وإلغاء الاتّفاق النوويّ الذي تمّ إبرامه مع إيران عام 2015.
 
ولكن، بدلًا من العمل على إرضاء الناخبين والمشاهدين، كانت معظم التعليقات التي تمّ تبادلها خلال المناظرة شخصيةً وتركّز على القدرة الجسدية والذهنية للمرشّحين، الأمر الذي لم يكن لا مطمئنًا ولا مشجّعًا. ففي نهاية المطاف، كانت هذه مناظرةً رئاسيةً، لا مؤتمرَ صحافيًّا يسبق مباراة ملاكمة. 
 
أعتقد أنّ الكثيرين سيتّفقون معي على أنّ هذه المناظرة كانت تفتقر تمامًا إلى الإلهام. ولعلّ توقّعاتي كانت أعلى لأنّني أعيش في بلدٍ وفي جزءٍ من العالم تحدث فيه أمورٌ مثيرة للاهتمام حاليًّا. فعلى سبيل المثال، سيكون ولي العهد الأمير محمّد بن سلمان راعي القمّة العالمية للذكاء الاصطناعيّ التي ستُعقد في مدينة الرياض في شهر أيلول/ سبتمبر. ويرعى ولي العهد فعاليّات قليلة كلّ سنة. لذا، يدلّ هذا على أهمية الحدث الذي من المتوقّع أن تتخلّله إعلانات مهمّة، كما وسيشارك العديد من الرائدين في هذا القطاع في حدثٍ يهدف إلى مساعدة العالم بأسره على تشكيل هذه الثورة التكنولوجية وفهمها بشكلٍ أفضل. 
 
إلّا أنّه، وعلى نحوٍ مفاجئ، لم يتمّ ذكر الذكاء الاصطناعيّ ولو لمرّة واحدة خلال المناظرة الرئاسية في دولة رائدة عالميًّا وتواجه منافسةً شرسةً من قبل منافسين لها حول العالم في هذا المجال بالذات.
 
على نحوٍ مماثل، وفي وقتٍ يُتوقّع فيه أن يصل اقتصاد الفضاء إلى 1.8 تريليون دولار في حلول السنة القادمة، لم يتمّ التفوّه بكلمة واحدة عن استكشاف الفضاء من قبل مرشّحَيْن شهدا أوقاتًا مشوّقةً، مثل أوّل هبوطٍ على سطح القمر، ويدركان إمكانات "ناسا" وقدراتها. وفي هذا الوقت، أرسلت وكالة الفضاء السعودية أوّل امرأة مسلمة إلى محطّة الفضاء الدولية، وهي تعمل بجدٍّ على إلهام جيلٍ بأكمله لغزو هذا المجال الجديد والاستفادة قدر المستطاع من اقتصاده.
 
لا يعني هذا أنّ المواضيع التي ناقشها بايدن وترامب غير مهمّة، ولكن يجب على سياسيّي الولايات المتّحدة التوقّف والتفكير في كيف أنّ الجدالات اللامتناهية في شأن مسائل الهجرة والإجهاض تعطي انطباعًا بأنّ بلدهم غير قادر على المضيّ قدمًا. فقد صدر حكم المحكمة العليا في قضية رو ضدّ وايد في 19 كانون الثاني/ يناير عام 1973، ولا ينبغي أن تبقى هذه القضية قيد النقاش بعد أكثر من 50 سنةً. وأدرك أنّ حقوق النساء لا تشكّل أقوى نقطة في سجلّ المملكة السابق، إلّا أنّه بفضل الإصلاحات التي بدأ تنفيذها منذ ثماني سنوات، تمّ حلّ معظم المسائل ولم تعد جزءًا من النقاش العامّ. ولا يفكّر أحدٌ بإعادة فرض قوانين الوصاية أو بإعادة الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارة. لقد مضت الأمور وارتفعت نسبة مشاركة النساء في سوق العمل السعوديّ من 17 إلى 36 في المئة، أي أنّها تخطّت ضعف النسبة السابقة بين عامي 2017 و2023.    
 
ويكمن جوهر الحديث في أنّه على المرشّحَيْن أن يتذكّرا أنّ ما يحدث في أميركا لا يبقى في أميركا، وأنّه عندما تعطس واشنطن، يصاب بقية العالم بنزلة برد. إذًا، من تنتخبه الولايات المتّحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر يحتاج إلى إعادة إشعال الإيمان بالحلم الأميركيّ وإنهاء كابوس الانقسام والاستقطاب والمناكفات السياسية الذي يؤثّر على السمعة العالمية والاستثمار الأجنبيّ المباشر، كما على مصالح الشركاء والحلفاء الرئيسيّين.
 
*رئيس تحرير "عرب نيوز"
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium