فلاح داود أبوجوده
تَكْتُبُ الجامعاتُ الاسمَ الثلاثيَّ لطُلّابِها على شهاداتِهم، لكنّها تمتنعُ في حفلِ التخرُّجِ عن قراءةِ أسماءِ الآباءِ، توفيرًا للوقتِ والجَهْدِ. فيقِفُ هؤلاءِ مستمعينَ إلى المُناديةِ وهي تنادي أولادَهُم ولا تناديهِم، وكأنَّهم غيرُ معنيّينَ بالأمرِ.
وكانَ أبي يُلمِّحُ بطريقةٍ غيرِ مباشَرةٍ، أنَّهُ يجبُ على الابنِ أن يَذكرَ اسمَ والدِهِ في معرِضِ توقيعِهِ؛ وهوَ نشرَ أولى قصائدِهِ في مجلّةِ "البيدر" لـ"وليم صعب" بتوقيعِ "داود يوسف أبوجوده".
وحينَ نشرْتُ أنا أيضًا أولى قصائدي على صفحةِ "النهار" الثقافيّةِ، حذوْتُ حذوَهُ، وتعمّدْتُ أن أوقّعَها باسمي الثُّلاثيِّ، وثابرْتُ على هذهِ الطريقةِ في كتاباتي اللّاحقةِ.
ويومَ بدأْتُ العملَ في عيادَتي، أصرَرْتُ على اعتمادِ الاسمِ الثلاثيِّ في تسجيلِ ملفّاتِ المرضى، تفاديًا للخطأ، في منطقةٍ تعجُّ بالأسماءِ المتشابهةِ.
فهنالكَ ألفُ "طوني بوحبيب"، وألفا "جورج حدّاد"، وثلاثةُ آلافِ "إيلي أبوجوده".
وكنّا كلَّما حصلَ خطأٌ بسببِ تشابُهِ الأسماءِ، شكَرْتُ أهلي، ووَجدتُ لهُم أسبابًا تخفيفيّةً لاختيارِهم اسميَ الفريدَ الغريبَ العجيبَ.
وعلى عكسِ الغربيّينَ، يعِجُّ العالَمُ العربيُّ بأسماءِ الأُدباءِ والشُّعراءِ والصِّحافيّينَ والسِّياسيينَ والمؤرّخينَ الذين استعملوا أسماءَهم الثلاثيَّةَ:
فهنالكَ "جبران خليل جبران" الذي صارَ - في ما بعد - "خليل جبران" في مؤلَّفاتِهِ الإنكليزيّةِ،
و"توفيق يوسف عوّاد" صاحبُ "الصبيّ الأعرج" و"طواحين بيروت"،
و"جبرا إبراهيم جبرا" صاحبُ "البحث عن وليد مسعود" و"السفينة"،
و"علي أحمد سعيد" المعروفُ بـ"أدونيس"،
و"رشيد سليم الخوري" المعروفُ بـ"الشاعر القرويّ"،
و"محمّد مهدي الجواهري" آخرُ عظماءِ القصيدةِ العموديَّةِ،
و"علي محمود طه" صاحبُ "الجُندول"،
و"بدر شاكر السيّاب" شاعرُ "أنشودة المطر"،
و"مصطفى لطفي المنفلوطي" مترجمُ "بول وفرجيني"،
وشاعرُ وادي القدّيسينَ "أنطوان مالك طوق" ابنُ الشاعرِ "مالك طوق"،
وشاعرُ الكورة "فؤاد نعمان الخوري" ناقلُ الشعرِ اللبنانيِّ من "بحويتا" إلى "سيدني"،
والكاتبُ التلفزيونيُّ "شكري أنيس فاخوري" صاحبُ "العاصفة تهبّ مرّتين"؛
وكانَ هذا الأخيرُ يتعمَّدُ أن يُسمّيَ بعضَ شخصيّاتِ مسلسلاتِهِ بأسمائِهم الثلاثيّةِ.
أمّا في الصَّحافةِ والإعلامِ، فكانَ هنالكَ "محمد سعيد الصحّاف" وزيرُ إعلامِ العراقِ إبّانَ الغزوِ الأميركيّ، ومبتكِرُ تعبيرِ "العُلوج" في وصفِهِ للجنودِ الأميركيِّين. وارتبطَ هذا التعبيرُ باسمِهِ في الصَّحافةِ الأجنبيّةِ، إذ لم تتوفَّرْ لهُ ترجمةٌ غيرُ عربيّةٍ.
و"محمّد حسنين هيكل" أيقونةُ الصَّحافةِ المصريّةِ،
و"محمّد بديع سربيه" ناشرُ "كلّ شيء"،
و"جورج إبراهيم الخوري" ناشرُ "الشَّبكة"، والابنُ الروحيُّ لسعيد فريحة، والمتنكّرُ أحيانًا باسمِ "حميدو"،
و"رياض نجيب الريّس" الذي ظلَّ يوقّعُ باسمِهِ الثلاثيِّ، ثمّ أغفلَهُ حينَ أسّسَ دارًا للنشرِ، سمّاها "دار رياض الريّس". وكانَ والدُهُ "نجيب الريّس" صِحافيًّا لامِعًا وشاعرًا، نظمَ قصيدةَ "يا ظلام السِّجن خيّم، إنّنا نهوى الظلاما"،
و"فاضل سعيد عقل" ابنُ الشهيدِ "سعيد عقل" الذي شنقَهُ "جمال باشا" في "ساحة البرج" مع باقي شهداءِ ٦ أيّار،
والكاتبُ والشاعرُ والصِّحافيُّ "وضّاح يوسف الحلو"، ابنُ المناضلِ والكاتبِ "يوسف خطّار الحلو"،
والمؤرِّخُ "يوسف إبراهيم يزبك"، ابنُ الأديبِ والصِّحافيِّ والخطّاطِ "إبراهيم فارس يزبك".
وغيرُهُم كُثُرٌ، كالعزيزِ الصحافيِّ اللامعِ والكاتبِ "لطفي فؤاد نعمان" حافظِ تاريخِ اليمنِ وصديقِ كلِّ صِحافيّي العالمِ العربيِّ، و"سعد سامي رمضان" المؤرشفِ الفنّيِّ لذاكرةِ الإذاعةِ اللبنانيّةِ.
ولمْ يقتصرِ استعمالُ الاسمِ الثلاثيِّ على الرجالِ، بل تعدّاهُ إلى النساءِ أيضًا، ومنهُنَّ :
"مليحة موسى الصدر" ابنةُ الإمامِ المغيَّبِ،
و"باديا هاني فحص" ابنةُ الأديبِ العلّامةِ ورجلِ الحوارِ الهادئِ،
و"إليسار أنطون سعادة" و"صفيّة أنطون سعادة" ابنتا فتى الرّبيعِ،
و"ميراي عبدالله شحاده" ابنةُ الشاعرِ الكورانيِّ التي أنشأَتْ مؤسّسةً ثقافيّةً تخليدًا لاسمِ والدِها.
وحتّى في انتخاباتِ الجمالِ ميّزَ اللبنانيّونَ بينَ الجميلتَيْن: "نادين نسيب نجيم" و"نادين ويلسون نجيم"، عن طريقِ استعمالِ الاسمِ الثلاثيِّ.
وهنالكَ من تجاوزَ الاسمَ الثلاثيَّ واعتمدَ الاسمَ الرباعيَّ،
كالزميل الدكتور "زياد نجيم" الذي أصرّ على اعتماد اسم والدتِه ووالده: "زياد ايڤا فؤاد نجيم" تكريمًا منهُ لهما. وكذلِكَ تعرَّفْنا بالشخصيّةِ الخياليّةِ "توفيق خليل توفيق خربوطلي" في حلقاتِ المغامرين الخمسة، الذي اختصرَ اسمه الرباعيّ بلقبِ "تختخ"،
وهنالكَ مَن اختصرَ اسمَ والدِهِ بحرفٍ واحدٍ، كالمخرجِ "أنطوان س. ريمي"،
ومثَّلَ "عادل إمام" شخصيّةَ "مرجان أحمد مرجان" رجلِ الأعمالِ الناجحِ العائدِ إلى الجامعةِ إرضاءً لأولادِهِ،
وأهدى "حنّا مينة" قصّةَ حياتِهِ "بقايا صوَر" إلى روحِ أمّه "ميريانا ميخائيل زكّور".
والغريبُ، أنّنا نادرًا ما نرى سياسيًّا أو زعيمًا لبنانيًّا يستعملُ اسمَهُ الثلاثيَّ، فهوَ يرثُ من والدِهِ كلَّ شيءٍ، من مالٍ ونفوذٍ وشهرةٍ وإقطاعٍ... ويمتنعُ عنِ استعمالِ اسمِهِ، فلا نجدُ أيَّ اسمٍ ثلاثيٍّ عندَ وَرَثةِ كبارِ العائلاتِ السياسيّةِ اللبنانيّةِ كـ آل جنبلاط، وآل الجميل، وآل فرنجيّة، وآل كرامي، وغيرِهم...
وقد شذَّ عن هذهِ القاعدةِ الزعيمُ البقاعيُّ "جوزيف طعمة السكاف".
أمّا القوميّونَ فقد استعملوا الاسمَ الثلاثيَّ للتخفّي والتنكُّرِ: فوقَّع "جورج عبدالمسيح" مقالاتِهِ باسمِ "خضر إبراهيم عبدل"، ووقّعَ "أسد الأشقر" كتاباتِه باسمِ "سبع بولس حميدان".
ولم يستعملْ أيُّ فردٍ من أفرادِ العائلةِ "الرّحبانيّةِ" اسمَهُ الثُّلاثيَّ. وكذلك فعلَ آلُ "تويني".
وأخيرًا، يُشكّلُ استعمالُ الاسمِ الثلاثيِّ نوعًا من إعجابِ الابنِ بشخصِ والدِهِ، فيقولُ "سوفوكليس": "ليسَ هناكَ مِن فرحٍ أعظمُ من افتخارِ الابنِ بمجدِ أبيهِ".
وفي العصرِ الحاليِّ قد يكونُ استعمالُ الاسمِ الثُّلاثيِّ أيضًا بهدفِ تفادي الأخطاءِ الناتجةِ عن تشابُهِ الأسماءِ في الحياةِ الاجتماعيّةِ، وفي لوائحِ الكومبيوترِ البيضاءِ على المطارات، وفي اللوائحِ الورقيّةِ السّوداءِ المنتشرةِ على المعابرِ وحواجزِ الخطفِ والخطفِ المضادِّ.