ركّزت الكثير من التقارير الإعلاميّة الدوليّة أخيراً على أخبار تشير إلى إعادة تقييم بعض مشاريع برنامج الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الطموح، والذي يأتي في إطار رؤية 2030، بالإضافة إلى إعادة تخصيص الميزانيات وفقًا لذلك. إلّا أنّ ما فاجأني هو أن بعض "المحلّلين" قد تفاجأوا بهذه الخطوات. حيث إن إحدى الميزات الرئيسيّة لطريقة عمل الحكومة السعوديّة اليوم في وضع أهداف ومؤشّرات أداء رئيسية، كما في إجراء عمليات تحقّق منتظمة، منذ اللّحظة الأولى لإطلاق هذه المشاريع من أجل تحديد مستوى التقدم المُحرز، مع إجراء مراجعات وتعديلات عند الحاجة. لا يعني هذا أبدًا أن نتائج كلّ هذه المراجعات قد أتت سلبيةً. فعلى سبيل المثال، كان الاقتصاد السعودي الأسرع نموًا بين اقتصادات مجموعة العشرين في العام 2022 بعد جائحة فيروس كورونا، حيث سجّلت المملكة فائضًا في الميزانية قدره 104 مليارات ريال سعودي (أي ما يعادل 28 مليار دولار). وسمح ذلك بتسريع تنفيذ بعض المشاريع وإطلاق مشاريع جديدة، بما في ذلك إنشاء صندوق بقيمة 1,5 مليار دولار أميركي لدعم الشركات الناشئة، مع التركيز بشكل خاص على المجالات المرتبطة بالتكنولوجيا المتقدّمة. أمّا هذا العام، وعلى الرغم من استمرار اقتصاد المملكة بالنمو، يُتوقّع أن تُسجّل السعودية عجزًا في الميزانية بقيمة 79 مليار ريال سعودي. وبالتالي، سيتطلّب ذلك خفض الإنفاق، أي التحلّي بحسّ المسؤولية المالية. بالإضافة إلى ذلك، دعونا لا ننسى أن المملكة لم تكتف بتحقيق الأهداف التي حدّدتها في بعض المجالات، بل تجاوزتها حتّى. في الواقع، كانت المملكة تهدف إلى استقبال 100 مليون سائح بحلول عام 2030، إلّا أنه تمّ تحقيق هذا الهدف العام الماضي وتمّ رفع العدد اليوم إلى 150 مليون سائح.
وعلى النحو نفسه، كانت المملكة تهدف إلى رفع نسبة مشاركة المرأة في القوى العاملة إلى 30 في المائة بحلول عام 2030، إلّا أن هذه النسبة قد وصلت في الواقع إلى 37 في المائة مع نهاية عام 2022، وتستمرّ في الارتفاع. ودعونا لا ننسى أيضًا أنه عندما أطلقت مشاريع مثل نيوم، الذي يُعدّ مهولًا لمدى طموحه، تعرّضت المملكة لانتقادات اتهمتها بالغرور وسخِرت منها لكونها تهدف إلى المغامرة بشكل غير مسبوق. أمّا الآن، وفي حين يُتوقّع الانتهاء من بعض المشاريع في مراحل مختلفة مع تعديل المواعيد النهائية لإتاحة المزيد من الوقت لها، نجد المُشكّكين أنفسهم ينتقدون المملكة من على الهامش. اعذروني، ولكن ما الذي تريدونه؟ هل تعتبرون المملكة طموحةً أكثر من اللّزوم أم ترون أنها محافظة للغاية؟ يجب على النقاد أن يختاروا، إذ لا يُمكنهم تبنّي الموقفين معًا. تُعدّ الاعتبارات المالية أمرًا لا مفرّ منه، بينما يدلّ تجاهلها على انعدام المسؤولية. ويُلزم القانون في العديد من الدول الغربية المعلنين عن المنتجات المالية بتحذير المشترين المحتملين وإعلامهم بأن "قيمة استثماركم قد تنخفض أو ترتفع". وينطبق الأمر نفسه على الموارد الماليّة الوطنيّة، إذ سيكون من الجنون افتراض العكس. فضلًا عن ذلك، تكتسب المملكة اليوم أهميةً عالميةً في مجالات لم يكن من الممكن توقّعها عندما تمّ إطلاق رؤية 2030 قبل ثماني سنوات. فعلى سبيل المثال، عندما يبحث كبار المروجين العالميين اليوم عن مكان لإقامة مباراة الملاكمة التالية التي سيتنافس المُشاركون فيها على اللّقب العالمي، فإنهم لا يفكرون بلندن أو نيويورك أو لاس فيغاس كما كانوا يفعلون من قبل، بل يفكرون بالرياض باعتبارها خيارهم الأوّل. وقد أصبحت السعودية اليوم محطّةً سنويةً أساسيّةً في سباقات الجائزة الكبرى للفورمولا 1، مع وجود مسار مخصّص لهذا الغرض قيد الإنشاء في القدية. وستكون العاصمة السعودية، التي تستضيف حاليّاً كأس العالم للرياضات الإلكترونيّة، على موعد مع أوّل أولمبياد للرياضات الإلكترونيّة في العام 2025. بالإضافة إلى ذلك، ستقام بطولة كأس آسيا لكرة القدم في السعوديّة في العام 2027، كما سيقام معرض إكسبو 2030 في الرياض، إلى جانب استضافة السعوديّة لبطولة كأس العالم لكرة القدم في العام 2034. تتطلّب استضافة كلّ هذه الأحداث، التي تجذب الملايين من الزوار إلى المملكة، استثمار مبالغ ضخمة في مجال تطوير البنية التحتية. وبالتالي، إن إعادة تخصيص الحكومة بعض الموارد من أجل ضمان عيش كلّ واحد من هؤلاء الزوار تجربةً إيجابيةً يُعتبر أمرًا حتميًا. ولكن، لا تتطرّق تحليلات وتكهنات بعض زملائنا العاملين في وسائل إعلام دولية إلى أي من هذه التفاصيل، إذ يبدو أنهم يعتقدون أن كلّ ذلك يحدث بسحر ساحر. بطبيعة الحال، ترتفع التصنيفات الائتمانية الدولية وتنخفض، كما يرتفع الإنفاق الحكومي وينخفض، حيث تتأثّر كلّ هذه الأمور بمجموعة متنوعة من العوامل. ولكن، هل تُضعف عمليات مراجعة وإعادة تقييم الإنفاق الحكومي والمشاريع ثقتي في أن المملكة تتقدّم على المسار الصحيح؟ على العكس، إذ تعزّز هكذا إجراءات ثقتي بذلك.