في حال تسنّت لزعيم "حماس" في غزّة يحيى السنوار والقائد العسكري لكتائب "القسّام" محمد الضيف فرصة البحث في قائمة آخر الأفلام المنشورة على منصّة "نتفليكس"، فسيجدان رسالة واضحة، تفوح منها رائحتا البارود والدماء، بعنوان "ميونيخ"، وسيفهمان المغزى بعد مشاهدة الفيلم الطويل أو حتى قبل، ومفادها أن "وصول إسرائيل إليهما قد يكون مسألة وقت"، وإن طال.
قد يكون تعبير "رجل ميّت يمشي" الأكثر استخداماً في إسرائيل حينما يتطرّق الحديث إلى السنوار والضيف، لكون القيادتان السياسية والعسكرية في تل أبيب تعتبرانهما رجلين ذوَي "مفعول موت مؤجّل"، لأنهما أبرز المخطّطين لعملية "طوفان الأقصى"، وكل ما حصل منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، والمسؤولان عن قتل مئات الإسرائيليين بين مدنيين وعسكريين.
العقلية الإسرائيلية تؤمن بالانتقام الشديد، وجهازا الاستخبارات الداخلي الخارجي، أي "الشاباك" و"الموساد"، هما الوسيلتان لتنفيذ عمليات الانتقام التي عادةً ما تكون الاغتيال، وكثيراً ما تحدّثت الصُحف عن مقتل قيادات فلسطينية، أغلبها انتمى إلى منظمة التحرير، في لبنان وسوريا ودول عربية وأوروبية، وذلك بسبب مسؤوليتهم عن عمليات استهدفت إسرائيل أو مصالحها.
وقد يأخذ الانتقام سنوات ويطول لعقود. وقد ورثت اللوبيات الإسرائيلية، أو مجموعات الضغط، هذه السياسة عن إسرائيل واستخباراتها. وقد تكون قراءة كتاب "من يجرؤ على الكلام" لكاتبه بول فندلي مفيدة للتعمّق في الفكر الانتقامي الإسرائيلي، الذي تمثّله في هذا الكتاب مجموعة "آيباك"، التي تستهدف من يخالف المصالح الإسرائيلية، ولو بعد سنوات طويلة في أي مكان في العالم.
بالعودة إلى فيلم "ميونيخ" المنشور حديثاً على "نتفليكس"، من الضروري الإشارة إلى أنه فيلم قديم، يعود تاريخ عرضه لأول مرّة إلى العام 2005، ولم يكن موجوداً على منصّة العرض المذكورة سابقاً. لكن نشره جاء بعد حرب غزّة وتحوّل اهتمام الرأي العام العالمي إلى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وأغلب الظن أنّه نُشر لأهداف مادية، لكن رسائله في السياسة لا تقلّ أهمية.
أحداث هذا الفيلم واقعية، وتدور حول قصّة حقيقية، وهي ملاحقة "الموساد" سنوات لأعضاء منظّمة "أيلول الأسود" التابعة لـ"فتح"، والتي نفّذت هجوماً على الفريق الإسرائيلي المشارك في أولمبياد ميونيخ، عام 1972، فقتلت 11 إسرائيلياً. وبالرغم من التكلفة المالية العالية والجهود الكبيرة، نجح جهاز الاستخبارات الإسرائيلي بقتل 9 من المسؤولين عن عملية "ميونيخ".
حوّل "الموساد" أوروبا إلى ساحة حرب، من إيطاليا إلى فرنسا فإسبانيا وغيرها، وخرق عناصره القانون، وعبثوا بالأمن لملاحقة الفدائيين الفلسطينيين المسؤولين عن عملية "ميونيخ"، وتمكّنوا من الوصول إليهم بعد جمع المعلومات بتكلفة باهظة، ثم اغتيالهم بين المدنيين وبأساليب متعدّدة، ما بين القتل بالرصاص والتفجير، من دون أدنى اعتبار لقوانين الدول أو أمن المدنيين، لأن هدف "التصفية" فوق كل اعتبار.
يهوى الإسرائيليون أسلوب "الإعدام خارج القضاء"، لأسباب متعدّدة، أبرزها "استئصال" التهديد عبر قتله من دون مماطلة، وبعيداً من الإجراءات القضائية التي قد تطول. أما السبب الثاني المهم فيكمن في إرسال رسائل إلى كل من يُريد تهديد أمن إسرائيل، مفادها أن الموت سيكون مصيره، ولو كلّف الأمر أثماناً بشرية ومادية،. ويُمارس الإسرائيليون هذا الأسلوب "بنظافة"، فيتنصّلون من كل مسؤولية، ولا يُعلنون عن مسؤوليتهم إلّا بعد سنوات.
لكن الفيلم ذا رسائل مزدوجة، وفي ختامه رسالة لإسرائيل نفسها، وكأن "حماس" تقف وراءها، قالها بطل الفيلم أفنير كوفمان، الذي مثّل دور قائد فرقة "الموساد" المكلّفة بعمليات الاغتيال المذكورة، وهي رفضه العودة إلى إسرائيل، وقوله "القتل يستتبع القتل ولا يؤمّن السلام". هذا ما أثبته التاريخ، فالحرب تستتبع الحرب، والقتل يستتبع القتل، وما هي حرب غزّة وعملية "طوفان الأقصى" إلّا خير دليل.
لا نعرف بعد ما إذا كان السنوار والضيف سيكونان استثناء فينفذان من الانتقام الإسرائيلي، لكن مما لا شك فيه أنهما يتربّعان على عرش قائمة المطلوبين لإسرائيل التي تُحاول بشتى الأساليب الوصول إليهما في غزّة. لكن الأشهر والسنوات والعقود المقبلة ستكشف ما إذا كانا سيواجهان مصير الفدائيين نفسه، أم سيكونان الاستثناء الذي سيوسم تاريخ إسرائيل الانتقامي.