النهار

"الذبح بالقطنة": بشاعة التعبير
نصرالله وشكر.
A+   A-
 
في خطابه الأخير، قال أمين عام "حزب الله" لجمهوره، وهو يبتسم، وبالكثير من الفخر، إن "الإيراني بيدبح بقطنة"، أي -بحسب ما فهمنا- أنه يذبح بسهولة حتى ولو بقطنة. يعني "بالعربي المشبرح" "الإيراني شاطر بالدبح ولو بدون سكين".
 
اعتدنا على القول "بيدبح بضفرو"، للدلالة على نفوذ الشخص وقدرته على تحقيق مبتغاه بسهولة. المشترك في القوليَن هو "الذبح"، وإن اختلفت أداته. والذبح في الحالتين يُنظر إليه كإنجاز ودليل انتصار. ويتساءل المرء بحزن وغضب، كيف أصبح الذبح مدعاة افتخار في مجتمعاتنا؟ وما هي الدلالات الثقافية والأخلاقية لذلك؟
 
الذبح يتم بقطع الشرايين عند الرقبة أو العنق. و"الرقبة عنصر حاسم في الجسم، حيث تربط الرأس بالجذع. تتحمل الرقبة المسؤولية الأساسية في دعم وزن الرأس وحماية الأعصاب، التي تنتقل عن طريق النخاع الشوكي للسماح بالوظيفة الحسيّة والحركيّة".
 
الذبح، وبالرغم من تعظيم معناه في القولَين أعلاه، هو دون شك أبشع أشكال القتل، لأهمية الرقبة في التكوين البشريّ من جهة، ولما يشكّله فصل الرأس عن الجسد من علامة حاسمة على "قطع" أيّ إمكانية لاستمرار الحياة، من جهة ثانية، فضلاً عن أن قطع الرأس هو اقتصاصٌ من القتيل، لا من جسده فحسب، بل من رأيه وموقفه أساساً.
 
وإذا كان القول بـ"الذبح بالقطنة" من شأنه التخفيف من مشهد وحشيّة الذبح، إذ يجري استبدال السّكين بالقطنة، غير أن التدقيق بمعنى الربط بين "الذبح" و"القطنة"، يجعل من الذبح أكثر وحشية، على ما أظن.
 
"القطن من نباتات المناطق الحارة، وهو عبارة عن شجيرة صغيرة، تتطلّب ريّاً جيّداً، وأرضاً خصبة حتى تنمو بشكل جيّد لتنتج قطناً على درجة عالية من الجودة".
 
إذن، بالإضافة إلى ملمسه الناعم، القطن هو نبتة، والنبات من ألطف الكائنات الحيّة، التي لا تتعدّى على الكائنات الأخرى، لا بشراً ولا حيوانات ولا نبات، فضلاً عن أنّه يُستخدم بمعظمه لصناعة الألبسة والمفروشات المنزلية، وهي موادّ تؤمّن الكساء للإنسان وتوفّر له الراحة.
 
أهمّ من كلّ ذلك، يُستخدم القطن لامتصاص سوائل الجسم، وفي الضمادات الجراحيّة،  ويُعرف أيضاً باسم القطن الجراحيّ،
كما يُستعمل في صناعة النوع التقليدي من "حفاضات" الأطفال والفوط الصحيّة. فهل من نبتة أحنّ من ذلك وأكثر رعاية لصحة الإنسان حفاظاً على حياته؟ وبالتالي، هل هناك أبشع من تحويلها إلى أداة لقتله والقضاء على حياته؟
 
لسوء حظ القطن وحظنا، جرى استخدام نعومته ولطافته وحنيته للدلالة على سهولة عملية الذبح! لكن الذبح يبقى ذبحاً، وسهولته تزيد من فظاعته.
 
لا أعرف كيف "استسهل" عقلٌ تقبّل عواقب ربط "القطنة" بـ"الذبح"، من أجل التعبير عن "سهولة" الذبح. كيف استسهل هذا العقل الاستغناء عن مادة ميتة (السكين) واستبدالها بكائن حي (نبتة القطن) لقتل كائن بشري؟ ألأن الغاية تبرر الوسيلة في ثقافتنا، ومعها يصبح كلّ شيء مباحاً؟
 
إني أجد في تعبير "الذبح بالقطنة" معنىً مجازياً إضافياً، ولا شكّ أنه خطر في بالي بتأثير من تكرار أحداث في تجربتنا اللبنانية؛ وهو معنى لا يوافق عليه بالتأكيد مريدو المعنى المجازي الأول.
 
فـ"الذبح بالقطنة" قد يعني أيضاً أن الذبح يتمّ بحجة القطنة؛ فالظاهر هو "القطنة"، أمّا ما يُخبئه الظاهر فهو الذبح.
 
ألم تأتِ إلينا إيران بحجة المساعدة، أي رمزياً حاملة معها القطن، لكن اللبنانيين لم يحصدوا -بمعظمهم- من سياساتها إلا النزاعات المذهبية والانهيار الوطني والحروب؟
 
ألم تدخل إسرائيل إلى لبنان بحجة حماية المسيحيين وتخليص لبنان من منظمة التحرير الفلسطينية، أي رمزياً حاملة معها القطن، ولم يحصد المسيحيون من سياساتها إلا التهجير والذبح، فيما رزح الجنوبيون تحت الاحتلال لسنوات طوال؟
 
ألم تتدخل سوريا في الحرب في لبنان بحجة وقف الاقتتال الأهلي، أي رمزياً حاملة معها القطن، ولم يحصد اللبنانيون من سياساتها إلا مزيداً من الاقتتال والاستبداد، وما يشبه الاحتلال؟
 
المعنى المجازي الثاني لا يقلّ بشاعة ووحشيّة عن المعنى المجازي الأول، ولا خيار لنا سوى إعادة فصل "القطنة" عن "الذبح"، ليبقى لنا ما نضمّد به جروحاتنا الكثيرة، ونكسو به أجسادنا المتعبة، ونسدّ به الاحتياجات الخاصّة لنسائنا وأطفالنا.
 
وقبل كل شيء، لنحمِ لغتنا وتعابيرنا من التشوّهات، الواعية واللاواعية؛ فاللغة ملجؤنا الأخير لإعطاء معنى لعيشنا البائس الذي أُفرغ من أيّ معنى.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium