فرض "طوفان الأقصى" على النخبتين العامّة والمثقّفة واقعاً والتزامات، وربّما قيوداً تبدأ بكمّ الأفواه في نقاشات وطروحات محدّدة- أبرزها الهويّة اللبنانيّة والغاية من الإسناد- مروراً بالتخيير ما بين طرف وطرف، وصولاً إلى مصطلح سياسيّ يطفو على الساحة الافتراضيّة على الأقل وهو الـ"نيو ممانعة".
والحقّ أنّ المصطلح بدأ يتّخذ موضعاً جدّياً خصوصاً مع اتّساع رقعة الجدل حول تعريفه، فضلاً عن غرائزيّة من يحملون هذا التعريف ودخولهم بمنطق "ملك أكثر من الملك نفسه" في السجالات والنقاشات السياسيّة.
فمن هم الـ"نيو ممانعون"؟ وكيف أوجدهم الحدث؟ ولماذا يعتبر وجودهم آفة على أنفسهم قبل أن تكون على الآخرين؟
المفهوم ومحاولة التموضع
ينقسم "المتحاربون" على مواقع التواصل الاجتماعيّ حول تعريف الـ"نيو ممانعة" أو تصنيف الـ"نيو ممانعين". وبالرغم من أنّ التصنيف يعدّ عمليّة محض ذاتيّة فإنّ الـ"نيو ممانعة" تتخذ تعريفين على الأقل، الأوّل - وهو الأكثر شيوعاً وجماهيريّة حتّى اللحظة- ينطلق من اعتبارها جماعة اختارت أن تؤيّد خطّ الممانعة المتمثّل بمحور إيران ووكلائها بعد عمليّة طوفان الأقصى بعد أن كانوا محايدين أو أصحاب توجّهات مخالفة للمحور. أمّا الثاني – وهو النخبوي – فيكمن في اعتبار بعض اليمين اللبناني وبعض المعادين الراديكاليين للمحور كلّ من لا يصبّ جام سخطه على الحزب وتحميله مسؤوليّة الخراب في الجنوب والهلع من حرب متوقعة هو "نيو ممانع" بالضرورة، أمّا الـ"نيو –ممانعون" أنفسهم فهم سواء يميلون نحو التعريف الأوّل أو الثاني يجاهرون بفوضويّة دفاعيّة نفسيًّا بعدائهم لإسرائيل، وكأنهم ملاحقون أينما كانوا بتهم العمالة والتخوين التي اعتدنا عليها من المحور ووكلائه المعروفين.
في روايته "مزرعة الحيوان" حاول الروائي البريطاني جورج أورويل جعل الشخصيّات الحيوانيّة صاحبة رأي أو آراء سياسيّة متنوعة تعكس بشكل خرافيّ طوباويّة المجتمع الديمقراطي المتخيّل، واليوم يحاول الـ"نيو ممانعون" التموضع في بيئة الممانعة محاولين الحفاظ على علمانيّتهم من جهة أو الاقتناع بالأيديولوجيا المحافظة من جهة ثانية.
يسلك هؤلاء طريقًا شاقًّا نحو الممانعة الكلاسيكيّة إذا ما أردنا تبنّي التعريف الجماهيري، يتعاطون بشكل عدائيّ دفاعيّ اجتماعيًّا، ومن خلال تقنيّة الملاحظة الدائمة التي كرّسها علم الاجتماع، نكتشف أنّهم يحسمون ولاءهم لسلطة "الممانعة" لكنّهم عالقون في أزمة الهويّة وهو ما يحول دون تحوّلهم إلى "ممانعين" رغم راديكاليّتهم.
آفة الوجود وعقدة النكوص
في مقدّمة كتابه "نقد الحرب الأهليّة" يذكّر الدكتور محمّد علي مقلّد الفرد والمواطن والقارئ بأنّ المتحاربين هم الذين لا يشاركون في الحرب أيضًا. واقعيًّا لا يحارب الـ"نيو ممانعون" سوى أنفسهم، كونهم لم يجيبوا عن أسئلة جمّة - وهو سلوك لاواعٍ معقول- أبرزها: ماذا بعد الطوفان؟ هل النكوص (العودة) هو المصير السياسي الاجتماعي المحتوم؟ أم الانخراط في خطّ سياسي بحكم مرحلة فارقة في حياة البشريّة تعادل كورونا والحربين العالميتين والربيع العربي هو الحلّ؟
يحاول الـ"نيو ممانعون" أيضًا إنكار ما لصق بهم، لا يريدون هذا التمايز، يريدون التهليل لخطابات نصرالله دون أن يصنّفوا، ويرغبون في السخرية من تأخر الرد الإيراني على مقتل رئيس حركة حماس اسماعيل هنيّة ورئيس أركان حزب الله (كما يسمّى) فؤاد شكر كنوع من الحنين لما سلف وكاستراحة قصيرة ومؤقّتة من كونهم مشروع "ممانعين"، أصبح وجودهم آفة تعيق تواصلهم مع الآخرين والانخراط السريع بالمحو، وكأنّنا أمام تحوّل نحو ما ذهب إليه فوكو والذي يصحّ في توصيف الحالات الانقلابيّة السياسيّة "فعل على فعل"، فعلٌ يمارس تجاه فعل بدأ منذ عشرة أشهر.
يخشى الـ"نيو ممانعون" من مصيرين فإذن: النكوص وهو حالة نفسيّة تتمثّل بالعودة إلى الوراء والتي ستترجم سوسيولوجيًّا وسياسيًّا بالندم، أو الذوبان الجماهيري وهو ما يمسح تمايزهم القائم، ليكون وجودهم آفة محفوفة بعقدة النكوص.
في نصّه السينمائي الأغرّ "طيور الظلام" يرسم وحيد حامد بين عادل إمام (فتحي نوفل) محامي السلطة ورياض الخولي محامي الأخوان المسلمين (علي الزناتي) الحواريّة التالية "بتصرّف": هو إيه الفرق ما بينّا يا فتحي/ يجيب فتحي: إنتو جماعة مش عارفين تبقو حزب واحنا حزب مش عارف يبقى جماعة". هو الفارق اليوم بين الممانعة بأحزابها الدينيّة وباقي الأحزاب المخاصمة لها، وهو الفرق بين الـ"نيو ممانعة" الجماعة التي لن تصبح حزباً أو طبقة سياسيّة وبين الممانعة بشقّها الإيديولوجي السياسي الديني التي ستبقى جماعة متماسكة ومجموعة أحزاب لن تتشبث أبدًا بالسلطة وما سقوط السنيّة والمارونيّة السياسيّة إلّا خير دليل.