د. ناصر زيدان
يشهد لبنان وضعية صعبة مُختلفة عن كلّ ما سبقها من أزمات. فهو يعيش حالة من التضامن الوطنيّ الواسع تجاه العدوان الإسرائيليّ على الجنوب وغير الجنوب، وفيه حالة من "التفكُّك الوطنيّ" من جرّاء الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية، ومن الترهُّل الحاصل في مؤسّسات الدولة الأخرى، بينما التباعُد بين مكوّناته السياسية والمجتمعية المختلفة كبيرٌ جدّاً.
في مواجهة البربرية الإسرائيلية في فلسطين وفي الجنوب وفي الجولان؛ لا يختلف اللبنانيون بغالبيّتهم الساحقة على الموقف، وهم يكنّونَ عداءً تاريخياً واضحاً للكيان الغاصب الذي استباح الأرض وقتل الأبرياء، ويمارس أبشع أنواع التنكيل بهدف تفريغ الأرض من سكّانها الأصليين لتوفير أرضية مناسبة لتحقيق طموحاته التاريخية الواهية في "إسرائيل الكبرى" على الأراضي العربية، انطلاقاً من أوهام ميثولوجية خاوية لا تستند إلى أيّ حقّ، ولا تُقارب أيّ منطق.
وعلى هذه الضفّة؛ يمكن رؤية صورة واضحة عن مدى صمود الجنوبيين وجسارتهم، برغم النكبات الكبيرة التي يتعرّضون لها، كما لا يمكن تجاهل المواقف السياسية والميدانية التي حصلت في غالبية المناطق اللبنانية، ولدى معظَم القوى الحزبية، وهي نادت بضرورة احتضان النازحين من الجنوب، وتوفير حالة تضامنية مُساعدة لهم، في الوقت الذي يعاني فيه المواطنون في هذه المناطق من ضائقة معيشية واختناق اقتصاديّ كبيرين. وبعض الأصوات التي خرجت عن هذا السياق التضامني لا تقاس باتّساع حجم المواقف المناصرة للفلسطينيين وللجنوبيين على مساحة الوطن.
أمّا على الضفّة المقابلة من نهر الصعوبات الوطنية الكبرى؛ فاللبنانيون على قارعة الانتظار (والتوصيف للأستاذة نايلة التويني في افتتاحية النهار 12/8/2024). فهم ينتظرون انتهاء الحرب على غزّة وهي قد تكون المدخل لانتهاء الحرب في الجنوب. وينتظرون نتائج هذه الحرب للبناء عليها في توليف الوضعية الداخلية اللبنانية.
وفي هذا السياق، هناك اختلافات كبيرة وجوهرية في تقدير الموقف من قبل الأطراف الحزبية المتنوّعة، كي لا نقول من قبل الجهات الطائفية والمذهبية المُتعدّدة.
يبدو واضحاً أنّ هناك مَن يراهن على خسارة "حزب الله" الحرب، لكي يُعيد تجربة تُشبه ببعض جوانبها تجربة خريف العام 1982. وهذا الفريق قد لا يعلم، أو يتجاهل، كون تلك التجربة أدخلتنا في نزاعات وحروبٍ قاسية، وانتهت إلى غير ما أراد المُهلّلون لها في حينها.
والجنوح نحو تحليلاتٍ خاوية في هذا السياق؛ لا تخدم لبنان، وتحديداً المسيحيين، بل تجرُّ عليهم ويلات إضافية. ولو كانت الأصوات المُعلنة والمخفية التي تنشُد هذه المعزوفة ضعيفة، وغير مؤثرة، إلّا أنّها موجودة، وتُرىَ بأمّ العين، وتُسمع خافتةً في الآذان الصاغية. وإسرائيل تتربَّص بلبنان شرّاً على الدوام، وقد تساعدها في مشاريعها التفتيتيّة؛ قوىً خارجية كبرى لديها طموح متشابه في فرض هيمنة على الإقليم، كما فرض حالة من التشظِّي الجهويّ والمذهبيّ على المساحة العربيّة الواعدة.
وربما هناك مَن يراهن على انتصار في الجنوب لكي يصرف فاتورة انتصاره في الداخل اللبنانيّ، ليفرض حضوراً سياسياً - وربما دستورياً – جديداً على الساحة، وهو ما يتخوَّف منه جزء كبير من الوسط السياسيّ المسيحيّ، وهذا الوسط لم يقتنع حتّى الآن بشفافية دعوة رئيس مجلس النوّاب إلى الحوار قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لأنّه يعتبر ذلك انتاجاً لأعراف دستورية تقلِّص من حجم مكانة المسيحيين، وهذا الفريق يخشى بطبيعة الحال من انعكاس أيّ نتائج لحرب الجنوب على الداخل وعلى حساب مكانة ودور المسيحيين (كما تقول أوساط فاعلة في هذا الفريق).
وإذا كانت بعض الأصوات المرتفعة التي صدرت في الأشهُر الأولى من الحرب مُنددةً بجرّ لبنان إليها؛ قد خَفتت بعض الشيء تهيّباً للموقف من دماء الشهداء الذين سقطوا على الساحة الجنوبية، وغالبيتهم نُخبة مختارة، لكنّ ذلك لا يعني تسليم فرقاء كثيرين على الساحة بخيارات "حزب الله"، بل على العكس من ذلك؛ فقد تصاعدت حدّة خطاب رجال الدين المسيحيين إلى مستوياتٍ مرتفعة، مندّدةً بالاستهتار في التعامل مع الفراغ الرئاسيّ. وقد تكون وضعية تصاعد لهجة البطريرك بشارة الراعي والمطران الياس عودة في هذا السياق، مُتّفقاً عليها مع بعض الجهات الحزبية المسيحية، لكونها أخفّ وطأةً على الشارع من خطابات أحزاب المعارضة، وخطاب بعض قادة هؤلاء كاد أن يُسبِّب إشكالات واسعة على الأرض في أكثر من منطقة. وما حصل على خلفيّة تصريحات النائبة القوّاتيّة غادة أيّوب خيرُ مثال على ذلك.
لا يمكن إخفاء حالة التفكُّك التي تعيشها الساحة اللبنانية، وهناك تباعُد مُخيف في تقييم القوى السياسية لما يجري، وبعض المشاورات التي تحصل في كواليس الصالونات الطائفية؛ لا توحي ببشائر خير للبلد. وعلى العكس من ذلك؛ فالحديث يدور عن حاجة المجموعات الطائفية المتباعدة إلى إيجاد مقاربات جديدة، تلغي الصيغة القائمة. واحدة من هذه الرؤى تنحو في اتّجاه تحقيق مشروع فيدراليّ "أو ربّما انفصاليّ" وواحدة أخرى تتطلّع إلى التخلُّص من الوضعيّة الطائفية الحالية للحكم، لكن لا يبدو خياره وطنيّ حتى الآن، بقدر ما يبدو رؤىً تحاول استبدال وضعية طائفية قائمة بوضعية طائفية جديدة.
قد تكون المصارحة في تشخيص الواقع مؤلمة، وقد يُتّهَم كاتبها بتأجيج المشاعر في لحظة مُعتمة من تاريخ الوطن، لكنّ مداواة الجرح تبدأ بالكشف عنه وإزالة "القيح" عن الشرايين التي تجري فيها الدماء الصافية.