النهار

العلاقات السعودية مع ايران... الفرص والتحديات
د. خالد محمد باطرفي
المصدر: "النهار"
العلاقات السعودية مع ايران... الفرص والتحديات
لقاء ولي العهد السعودي والرئيس الايراني الراحل. (أرشيفية)
A+   A-
العلاقات بين الدول، كالعلاقات الشخصية، تقوم على مزيج من المصالح والمشاعر، الحاضر والماضي، تجاذب الولاءات والتحالفات، وتخالف الانتماءات والمرجعيات.

والعلاقة بين السعودية وإيران شهدت خلال العقود الخمسة الماضية تحولات كبيرة، متأرجحة بين التوتر والتعاون. ومع تولي الرئيس الجديد مسعود بزشكيان مقاليد الحكم، تثار تساؤلات حول مستقبل هذه العلاقات وكيف ستؤثر التوجهات الجديدة في طهران على التفاعلات الإقليمية والدولية.

ولعل آخر، وربما ابرز محطات التطور في العلاقات السعودية الإيرانية، كان الاتفاق التاريخي الذي تم في بكين عام 2023 برعاية وضمانة صينية، نتيجة لجهود حثيثة جرت خلال عامين في العراق وعمان وبشكل مباشر، وهو ما أفضى إلى استئناف العلاقات الديبلوماسية وفتح سفارتَي البلدين.

تشمل الدوافع وراء الاتفاق سعي القوى الإقليمية والدولية إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، بإلإضافة إلى التحديات المشتركة التي تواجه البلدين مثل التغير المناخي وتقلبات أسعار النفط، وتدفعهما باتجاه التعاون والعمل المشترك. وقد يسهم تولي الرئيس الإيراني الجديد، الذي يُنظر إليه على أنه أكثر انفتاحاً، في خلق مناخ أكثر ملاءمة للحوار.

على أنه لا يمكن التقليل من حجم التحديات التي تواجه العلاقات، إذ يعود تاريخ التنافس بين البلدين إلى عقود، ما يجعل بناء الثقة عملية طويلة. ولا تزال هناك اختلافات أيديولوجية عميقة بين النظامين السياسي والديني في البلدين.

ثم إن عملية صناعة القرار في طهران تخضع لإرادة المرشد الأعلى وتهيمن عليها القوى اليمينية المتشددة، كالحرس الثوري والقيادات الدينية النافذة. وجميعها لها مصالح اقتصادية وسياسية ومواقف عقائدية تتقاطع حيناً وتتضارب أخرى. ويحرص كل طرف منها على الدفاع عما يخصه.

وعلى الرئاسة الجديدة أن تراعي هذه المصالح والحساسيات وإلا تم تحييدها وإضعافها وإفشال خططها كما حدث للقيادات الإصلاحية السابقة، وآخرها حكومة الرئيس محمد رضا خاتمي، وأن لا تنحني أمام القوى التي ستسعى حتماً للسيطرة على الأجندة الإصلاحية وتفريغها من مضامينها وإفشال وعودها الانتخابية وإفقادها ثقة الناخبين، بدءاً بالتحكم في تشكيلة مجلس الوزراء وتعيين كبار رجالات الدولة، وانتهاءً بتحديد وإضعاف صلاحياتها الدستورية.

وفي النطاق الاقليمي، تسعى كل من السعودية وإيران إلى تعزيز شبكة الشراكات والتأثير والحضور، ما قد يؤدي إلى توترات مستقبلية إذا تضاربت المصالح.

يتطلب بناء الثقة بين البلدين وقتاً وجهداً، فما هُدم في نصف قرن تصعب استعادته في سنوات قليلة، خاصة إن كانت الدوافع آنية ومرحلية وليست نتيجة لتغير عميق في الهيكل والعقيدة والقيادة.

وقد تواجه التوافقات تحديات جديدة في المستقبل، حسب التغيرات التي قد تؤثر على تقاطع المصالح وتقلبات الخريطة الداخلية للسلطة وهيكلية القيادة والتحالفات الدولية.

وفي المقابل، فمن التداعيات الإيجابية المنتظرة أن يشجع التوجه الإصلاحي في إيران على زيادة الحوار والتعاون، خاصة في المجالات الاقتصادية والثقافية، وترسيم نهائي وشامل للحدود البحرية، ينهي إشكاليات مثل مطالب إيران في حقل الدرة السعودي الكويتي.

ومن المتوقع اتساع مساحة التعاون الأمني، خاصة في ما يتعلق بأمن الخليج والممرات البحرية والجرائم العابرة للحدود والعلاقات الطائفية، وأن يتسارع النشاط في مجالات مجدية تنعكس مباشرة على التنمية والاقتصاد والتقارب الشعبي، مثل الطاقة والتجارة والاستثمار والسياحة والثقافة والفنون والرياضة والتعليم والبحث العلمي.

فالبلدان يتمتعان بمكانة جيوسياسية هامة، وموارد طبيعية عالية، يمكن الاستفادة منهما لتعزيز التجارة والاستثمار المشترك، والتعاون في تطوير البنية التحتية وبناء المدن الجديدة، والربط بين شبكات المواصلات والاتصالات الإقليمية، مثل الطرق والسكك الحديدية والموانئ والإنترنت والهاتف والماء والكهرباء، ما يسهم في تعزيز التكامل الاقتصادي في المنطقة.

وكذا التعاون في مجالات الطاقة التقليدية، والخضراء والمتجددة. وقد نشهد استثمارات لشركة أرامكو وسابك في قطاعي النفط والصناعات البتروكيماوية وعقوداً لصيانة وتطوير آبار النفط والغاز وشبكات التوزيع الإيرانية على أحدث المعايير الإنشائية والتقنية. كما قد نشهد ربط آبار إيران مع شبكة أنابيب تصدير النفط الخام والغاز السعودية من الخليج إلى البحر الأحمر.

ومن المتوقع أن يكون للاتفاق السعودي الإيراني تأثير كبير على أسواق النفط العالمية بزيادة الاستقرار في أسواق النفط، وتفادي الخلافات التي كانت تؤدي إلى تقلبات كبيرة في الأسعار، وتنسيق جهودهما في إدارة الإنتاج، بما ينعكس إيجاباً على العرض والطلب، ويسهم في تخفيف الضغوط التضخمية العالمية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة.

وعلى الساحة السياسية، يؤمّل أن ينعكس التقارب السعودي الإيراني إيجاباً على القضايا الإقليمية، وعلى رأسها الأزمة اليمنية، ويحسّن أجواء العلاقات الإيرانية مع البحرين ومصر والأردن والكويت، والعلاقات السعودية مع دول النفوذ الإيراني. وقد يسهم في إطفاء الصراعات في سوريا واليمن، ولكن قد لا تسهم في حل مشكلات مزمنة مثل قضية الجزر الإماراتية المحتلة، أو تحقيق اختراق جذري يغيّر المعادلات في الأزمة اللبنانية.

كذلك من شأن خفض حدة الصراع بين القوتين الإقليميتين الكبيرتين وفرص المواجهة المباشرة بينهما، خلق مناخ أكثر استقراراً وأمناً وتعاوناً في المنطقة. وإن كان من الطبيعي أن يؤدي التقارب السعودي الإيراني إلى تغيير موازين القوى في المنطقة، ما يدفع الدول الأخرى إلى إعادة تقييم تحالفاتها وسياساتها الخارجية.
ومن المأمول أن يشجع هذا التقارب على تعزيز التعاون بين البلدين في مكافحة الإرهاب والتطرف، مما يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.

ولعل هذه التداعيات الإيجابية هي التي دفعت الصين التي تربطها بالمنطقة مصالح استراتجية الى تبني التقارب السعودي الإيراني. ودفعت الولايات المتحدة (وحلفاءها والمجتمع الدولي عموماً) إلى الترحيب به خشية أن يؤدي أي صراع بين البلدين إلى تهديد مصالحها في المنطقة. كما أن خبرة الرياض في إطفاء الحرائق وحل النزاعات يمكن أن تساعد على احتواء نذر الحرب والمواجهات غير المحسوبة في ظروف طارئة، كتلك التي نجمت عن اغتيالات إسرائيل لقيادات إيرانية وفلسطينية وعميلة لايران. وسياسة النأي بالنفس وتحريم عبور أراضي وفضاء المملكة في أي مواجهة بين إيران وعملائها، وإسرائيل وحلفائها، أثبتت فائدتها لجميع الأطراف وتدعيمها لمكانة الرياض ومصداقيتها كوسيط نزيه.

ولذلك كله، ورغم التحديات والمصاعب، فإن ما يمكن تحقيقه من هذا التقارب بين ضفتي الخليج يفوق بمراحل ما يؤدي إليه التدافع والخلاف. وما ينتظر أن يستفيد منه سكان المنطقة والمتعاملون معها والمستثمرون فيها يستحق منهم أكثر من مجرد التأييد. فدعم هذا التصالح والتكاتف مع الجهود المبذولة لمعالجة الاحتقان وضمان عدم العودة إلى الحالة السابقة ليس في مصلحة طرفي الاتفاق فحسب، بل يتسع ذلك ليشمل تحقيق السلم والأمن والازدهار في عالم مترابط المصالح ومتشابك العلاقات.

والرهان على وعي القوى العظمى والدول والمنظمات والجماعات المؤثرة، الإقليمية والعالمية، بهذه المنفعة، وحرص حكماء البلدين على تعظيم الفائدة منها وتحييد مناوئيها وتجاوز عقباتها، يدفعنا إلى التفاؤل (الحذر) بنجاح هذا الاتفاق في عهد الرئيس الإيراني الجديد.

@kbatarfi

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium