غداة حرب تموز 2006، زارت صديقة شيعية قريبة من الثنائي الشيعي مدينة بنت جبيل بعد إعادة إعمارها.
أخبرتني كم كانت فرحتها كبيرة عند رؤية عظمة الجهد الذي بُذل لإعادة بناء المنازل المهدمة. لكنها سرعان ما نظرت إليّ بأسى متسائلة "لكن هل كان من الضروري إحداث كل هذا الدمار لتكبد عناء البناء من جديد"؟
تذكرتُ ما قالته الصديقة في صبيحة اليوم الذي شهد "الرد الأوّلي" لحزب الله على اغتيال إسرائيل قائده العسكري فؤاد شكر، مع هذا الفارق أنه سنة 2006 قال نصرالله إنه لم يكن يعلم، فيما هو يعلم جيداً في سنة 2024.
بعد "الرد" مباشرة، اتصل بي صديق، مستغرباً كيف أن نصرالله اتخذ قرار الرد في ظل موازين القوى الواضحة لصالح إسرائيل بدعم أميركي، مخاطراً بتدمير البلاد التي تعاني انهياراً على المستويات كافة.
أجبت صديقي أنه يفترض خطأً أن قرار الحرب يُتخذ دائماً وفقاً لحسابات عقلانية، مضيفاً بالمقابل أنني أعتقد أن الرد لن يكون أكثر من "رد إعتبار"، ربما فضّل نصرالله حصوله قبل احتمال التوصل إلى صفقة في القاهرة بين حماس واسرائيل، حيث يصعب عليه بعدها القيام بذلك. وسرعان ما بيّنت التطورات الميدانية والبيانات التي صدرت عن الطرفين، حرصهما على عدم التصعيد. مع استمرار اعتقادي بنية نتنياهو توسيع الحرب في لبنان.
وكالعادة كانت الخسائر أكبر على الجانب اللبناني منها على الجانب الإسرائيلي. حصل كل ذلك وأنا أمضي عطلة الأسبوع بالقرب من غابة الأرز، رمز الكيان اللبناني المهدد بالزوال، فرحتُ أتأمل التاريخ الحديث لهذه البلاد، القائم على تتابع وتكرار عملية التدمير وإعادة الإعمار للمرة الألف.
وجدتني أسترجع تساؤل الصديقة حول بنت جبيل وتساؤل الصديق حول قرار نصرالله بالرد، ودمجتهما معاً في سؤال واحد: هل الدمار كان ضرورياً سنة 2006 وهل قرار "حرب الاسناد" أو قرار الرد سنة 2023-2024 هو موقف عقلاني؟
السؤال كما هو مطروح يحيلنا إلى أسباب الحروب، وهو موضوع شائك تفترض الإجابة عنه الإحاطة بأنواع الحروب وظروفها المتعددة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والوطنية. لكن ما يهمني أكثر في هذا النص، هو تحديداً قرارات الحرب التي تُتخذ من دون تقدير لموازين القوى وللخسائر البشرية والمادية التي تترتب عليها، ما يجعل من "عقلانية" متخذي هذه القرارات موضع تساؤل.
استسهل معظمنا مقاربة الموضوع في 2006 وفي 2024، وجزموا أن القرار إيراني وليس لبنانياً، وإذا كان هناك من حسابات "عقلانية" فهي من الجانب الايراني الذي لا يتكبد الخسائر البشرية والمادية ويقطف بالمقابل مكاسب على المستوى الجيوـ سياسي. يبقى التساؤل حول سبب قبول "حزب الله" وبيئته بدفع هذه الأثمان الباهظة، لا سيما أن في مسألة الرد الأخير، جاء الرد من لبنان فقط دون ساحات المحور الأخرى. وبحسب نصرالله، أن حصر الرد بلبنان هو لـ"حكمة" ما لم يفصح عنها. وكنا قد صادفنا مثل هذه "الحكمة" عندما قال لنا في خطاب سابق أنه ليس من الضروري أن تنخرط إيران وسوريا في الصراع العسكري.
الجواب المتداول لبنانياً حول أسباب قبول الحزب وبيئته دفع هذه الأثمان الباهظة، وإضافة إلى عقيدته التي تدفعه إلى ذلك، هو أن انخراط الحزب في الحروب يكسبه هو ومذهبه مواقع في السلطة وفي مراكز القرار بشكل عام، وجميعها لها منافع سياسية واقتصادية. كما أن الحزب يحمّل الوطن ككل جزءاً كبيراً من كلفة هذا الانخراط، فضلاً عن قدرته على تعويض خسائره المادية من المال الإيراني.
في خطابه الأخير في يوم الرد، بدا نصرالله وكأنه يتجاوز الإعتبارات السياسية والاقتصادية والعسكرية، مركّزا على الدوافع الدينية والأخلاقية في قرار الرد. فأطلق على العملية اسم "يوم الاربعين"، أي أربعين الإمام الحسين، وكان قبل ذلك، وبدل أن يقدم قراءة سياسية للوضع الحالي، قد أسهب في الكلام عن المناسبة الدينية الحسينية متوقفاً بالأرقام عند عدد زوار الأماكن الدينية في العراق، الذي فاق العشرين مليوناً بحسب تقديره.
كذلك لم يظهر على نصرالله أي حرج، في عرضه لمسار المعركة، في أن لا يكون باستطاعته تقديم أي مؤشر فعلي لنجاح المسيّرات في تحقيق أهدافها العسكرية، واكتفى بالإشارة تكراراً وبفخر أنها نجحت في عبور الأجواء الإسرائيلية وصولاً إلى حيث كانت متوجهة.
وفي محاولة منه للدلالة على أهمية قرار الرد، لم يتحدث عن النتائج العسكرية وما اذا كانت توازي خسارة فؤاد شكر والمدنيين الذين قُتلوا معه، بل اعتبر أن قرار الرد برهن على "شجاعة" المقاومة، وكأن وظيفة الرد كانت لرفع العتب، والرد لم يكن على إسرائيل بقدر ما كان على الذين اتهموا المقاومة بالجبن وبالتلكؤ بالرد.
وقد توّج نصرالله مقاربته الدينية والأخلاقية للحدث، فأكد أنه لم يقل يوماً أن هناك توازن قوى مع العدو المدعوم أميركياً، بل هو أراد دوماً إعلاء شأن الدم في مواجهة السلاح.
"يوم الأربعين"، شجاعة المقاومة، الدم في مواجهة السلاح: جميعها رموز كربلائية، فهل نشهد عند نصرالله تراجعاً في مفهومه للمقاومة من "لبيك يا حسين" إلى التماهي مع ما حلّ بالإمام الحسين في مجزرة كربلاء، كل ذلك بموازاة الانتقال من استراتيجية الردع إلى استراتيجية الرد، بفعل الخلل الكبير في موازين القوى؟ شعار "لبيك يا حسين" يحمل إرادة هجومية إنتقامية ترفض أن يُستفرد الإمام الحسين مرة أخرى، أو أن يحل بأتباعه ما حلّ به من مآسٍ، في حين أن نصرالله في خطابه الأخير يميل أكثر إلى التماهي مع فجيعة الإمام.
على ضوء كل ذلك، هل يصحح نصرالله خطأه الاستراتيجي بربط حرب الإسناد بحرب غزة، أي بإرادة المجرم نتنياهو الذي لا يشبع من الدم، والذي يخوض حرب حياة أو موت سياسية، مدركاً تماماً أن الحرب تحييه فيما السلام يقتله؟ أم أن نصرالله لا زال يثق أن نتنياهو لن يغيّر قواعد الاشتباك، فيخيب ظنه كما في 2006، فتأتي الضربات الإسرائيلية على عكس ما توقع عندما خطف الجنديين الإسرائيليين؟
صحيح أن نصرالله حافظ حتى الآن على قواعد الإشتباك مجنباً بلاده ردوداً إسرائيلية أعنف وأشمل وأعمق، غير أن قراءته السياسية للاستراتيجية الإسرائيلية لا لبس فيها: نتنياهو يرغب بالتوسع في حربه ربما وصولاً إلى ضرب المفاعلات النووية في إيران، عندما يحين الوقت. وبالتالي لا ينفع كثيراً تطمين نصرالله اللبنانيين ودعوتهم لأن "يرتاحوا" ويعودوا إلى بيوتهم. فمعظم اللبنانيين في حالة قلق دائمة ويراكمون الخسائر البشرية والمادية والنفسية يوماً بعد يوم، وهم ينتظرون منه، دون تأخير، وقف الحرب والسماح بانتخاب رئيس للجمهورية وعودة المؤسسات الدستورية للعمل، حتى يطمئنوا إلى مستقبلهم ومستقبل أولادهم.