الكارثة البيئية التي توشك أن تحل بالبيئة البحرية في جنوب البحر الأحمر، بعد قصف مليشيا الحوثي سفينة نقل نفط يونانية "SOUNION"، في 21 آب/أغسطس الجاري، تحمل أكثر من مليون برميل نفط، تفوق خطر الناقلة صافر التي بالكاد تنفس العالم الصعداء بعد انقاذها من شباك الحوثي. والحادثة هي آخر جريمة في سلسلة الجرائم البيئية التي تمارسها الجماعة المصنفة دولياً إرهابية، وجرس إنذار جديد على المخاطر التي تتهدد هذا المعبر الدولي الهام.
فعلى الخارطة العالمية، يُعدّ جنوب البحر الأحمر منطقة ذات أهمية جيوبوليتيكية إقليمية ودولية كبيرة، نظراً لموقعه الاستراتيجي على مفترق طرق تجاري رئيسي يربط بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، عبر مضيق باب المندب وقناة السويس. كما تحيط بالمضيق ممرات مائية دولية هامة في خليج عدن وبحر العرب وسواحل القرن الأفريقي وشرق أفريقيا.
وسنوياً يمر ما يقارب 21 ألف سفينة، حاملة نحو 30% من تجارة النفط والغاز الطبيعي
و12% من حجم التجارة العالمية.
كما يُعدّ مضيق باب المندب، الواقع في جنوب البحر الأحمر، بوابة عبور رئيسية للتجارة العالمية، ما يجعله عرضة للقرصنة والتهديدات الأمنية.
وتُشكل الأنشطة العسكرية في المنطقة، مثل التدريبات العسكرية والوجود العسكري الأجنبي، المتمثل في أساطيل عسكرية وقواعد بحرية وجوية لقوى عالمية عظمى غربية وشرقية متنافسة ومتحالفة، خاصة في جيبوتي والصومال، تحديًا لأمن الملاحة الدولية.
وأدّت الاشتباكات في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن إلى تصاعد التوترات بين الدول الإقليمية، مثل السعودية وإيران والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل في أوقات وظروف مختلفة.
كما أدت إلى تعزيز التدخل الدولي في المنطقة، مع زيادة وجود القوات البحرية الدولية في البحر الأحمر والبحار التي يصب فيها. وساهمت هذه الاشتباكات في زعزعة استقرار المنطقة وجعلتها أكثر عرضة للصراعات الإقليمية والدولية.
ومن ناحية أخرى، ضاعفت التهديدات الملاحية تكلفة التأمين على النقل البحري وبالتالي رفعت أسعار المنتجات الغذائية والاستهلاكية على سكان البلدان المشاطئة، بما في ذلك اليمن. وهكذا فقد تأثرت عمليات الشحن من شرق آسيا إلى ميناء إيلات، ولكنها لم تحاصرها في ظل توافر الشحن البري والجوي والبحري عبر موانئ إسرائيل على البحر الأبيض المتوسط.
ومن المرجح أن تستمر الأزمة في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن في المدى القريب، مع استمرار الصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة. ومن الممكن أن تتفاقم الأزمة وتؤدي إلى صراع إقليمي واسع النطاق، خاصة مع تصاعد التوترات بين حلفاء إيران والمجتمع الدولي على خلفية الحرب في غزة، ودخول أساطيل أجنبية على الخط، بما في ذلك التابعة للولايات المتحدة ودول أوروبية والصين وروسيا والهند.
ولذا فمن المهم تكثيف الجهود الدولية لتسوية الأزمات التي تعيشها المنطقة سلميًا، من خلال الحوار والتفاوض بين الدول الإقليمية والدولية. وتقود السعودية هذا التوجه بعد اتفاقها مع إيران بضمانة الصين، وإرسائها هدنة في الحرب اليمنية وقيامها مع عمان بدور نشط في الوساطة بين أطراف النزاع. كما سعت وتسعى الرياض إلى حل الخلافات المزمنة مثل الخلاف الإثيوبي الإريتري الذي انتهى باتفاق سلام وقع في الرياض، والخلاف المصري الإثيوبي السوداني على مياه النيل.
التداعيات الإقليمية والدولية
وتتلخص انعكاسات الوضع الراهن على البعد الجيوبوليتيكي الإقليمي في ما يأتي:
• التنافس على النفوذ: تسعى بعض الدول الإقليمية الرئيسية، مثل السعودية وإيران والإمارات وتركيا وإسرائيل ومصر، إلى توسيع نفوذها في المنطقة، ما قد يُؤدّي إلى صراعات إقليمية.
• التوترات الأمنية: تُؤدّي الصراعات الإقليمية والتدخلات الخارجية إلى توترات أمنية في المنطقة، ما يُهدّد الاستقرار والأمن الإقليمي.
• أزمة اللاجئين: تُؤدّي الصراعات الإقليمية إلى نزوح أعداد كبيرة من اللاجئين، ما يُؤثّر على الدول المجاورة.
• المخاطر البيئية: تخلق الصراعات وتلوث البيئة، وخاصة البحرية، مناخاً قاتلاً للحياة الطبيعية والاقتصادية والتجارية، خاصة في مجالات صيد الأسماك والنقل البحري والتبادل التجاري عبر الممرات المائية يؤثر سلباً على مصالح السكان في المناطق الساحلية ومصالحهم المعيشية، ما قد يدفعهم إلى الثورة والهجرة الجماعية والقرصنة والتطرف.
اما انعكاسات الوضع الراهن على البعد الجيوبوليتيكي الدولي فيمكن رصد أهمها في التأثيرات الآتية:
• يُؤثّر الوضع الأمني في جنوب البحر الأحمر على أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، ما يُهدّد التجارة الدولية.
• تسعى بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، إلى توسيع نفوذها في المنطقة، ما يُؤدّي إلى صراع على النفوذ بين هذه الدول، ومع القوى الإقليمية والجماعات المسلحة المحلية والعابرة للحدود.
• يُؤثّر الوضع في جنوب البحر الأحمر على الاقتصاد العالمي، خاصةً على تجارة منتجات الطاقة التي اضطربت أسواقها نتيجة لصراعات دولية أبرزها حرب أوكرانيا والعقوبات الغربية على منتجات النفط والغاز الروسية والإيرانية.
الحلول الآنية والمستدامة
قد يجد المجتمع الدولي نفسه مضطراً إلى التدخل لضمان أمن ممرات الشحن وتهدئة التوترات. ويمكن أن يشمل ذلك جهوداً دبلوماسية أو وجوداً أمنياً بحرياً أو حتى تدخلاً أكثر قوة حسب شدة الحالة. وقد أعلنت الصين وروسيا والهند عن إرسال سفن عسكرية لحماية ناقلاتها. فيما سبقت أميركا وبريطانيا بقيادة تحالف عسكري للجم الحوثي. ولحقت أوروبا بتحالف ثان لحماية الممرات البحرية بدون ضرب أهداف على الأرض. وفي جيبوتي والصومال تتواجد قواعد بحرية وجوية للعديد من دول الإقليم والعالم.
وتعد الجهود الدبلوماسية المتزايدة من قبل الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية حاسمة لإيجاد حل سلمي للنزاع اليمني ومعالجة الأسباب الجذرية للمنافسات الإقليمية. ويمكن أن تمهد التسوية التفاوضية الطريق إلى السلام والاستقرار الدائمين. ولكن هذه الجهود يعرقلها التعنت الإسرائيلي والدعم الأميركي الأعمى له، مقابل إصرار ايران على دعم مليشياتها في اليمن بالصواريخ الباليستية والبحرية والطائرات والألغام المائية والمراكب الانتحارية والمعلومات الاستخبارية.
كما يمكن للبلدان المطلة على البحر الأحمر السعي لاستكشاف خيارات لتنويع اقتصاداتها وتقليل اعتمادها على إيرادات الشحن. ويشمل ذلك تطوير صناعات جديدة، والاستثمار في السياحة، وتعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي. وتقود الرياض دول المنطقة في هذا الاتجاه من خلال مشاريعها الطموحة ضمن رؤيتها التنموية الشاملة 2030.
ختاما، يُعدّ جنوب البحر الأحمر منطقة ذات أهمية جيوبوليتيكية إقليمية ودولية كبيرة، ويُؤثّر الوضع الراهن في المنطقة على الاستقرار والأمن الإقليمي والدولي. ويجب على الدول الإقليمية والدولية العمل معاً لمعالجة التحديات التي تواجه المنطقة، من أجل الحفاظ على الاستقرار والأمن الإقليمي والدولي.
وقد قدمت دول المنطقة بقيادة الرياض العديد من المبادرات والمشاريع والأنشطة التي تصب في هذا الاتجاه. والحاجة ملحة لتعاون كافة دول المنطقة والعالم والمشاركة في هذه الجهود لإطفاء نيران الصراع وتكريس مفاهيم التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر والأمن الجماعي والسلام العادل والعمل المؤسسي المشترك لمحاربة الإرهاب واجتثاث جذوره المتمثلة في الطائفية والتطرف الديني والتعصب الفكري والعرقي وخطاب الكراهية وغيرها من الأوبئة الإيدلوجية والنفسية.
@kbatarfi