د. فؤاد أبو ناضر
لن أستطيع سرد حياة بيار الجميّل بسطور قليلة، هذا القائد المميز والصيدلي والأب لعائلة كبيرة والذي انطلق من حركة شباب ليؤسّس أكبر حزب منظّم في لبنان. حتى أنه لما كانت تُذكر كلمة "الحزب"، كانت الإشارة واضحة تدلّ إلى حزب الكتائب وليس لأحد سواه.
احترامي الكبير له لم يحل دون حصول خلاف بوجهات النظر معه، في بعض الأحيان، وأذكر هنا حادثتين:
- في بداية الحرب كان عدد صغير جداً من رفاقي يعلم بعلاقتي العائلية ببيار الجميّل. كنت مصراً على أن أكون مثل كل المقاتلين وألا يتصرف المسؤولون معي كوني حفيد رئيس الحزب. هذا الأمر تحول إلى هاجس لدي، لدرجة أنه كانت لي، في بعض المواقف، ردّات فعل مبالغ فيها.
في أوائل سنة ١٩٧٥، توجهت مع عدد من رفاقي إلى منطقة الكرنتينا، في مهمة على الجبهة. وعندما عدت لأخذ قسط من الراحة في بيت الكتائب في المدوّر، قال لي أحدهم إن الشيخ بيار يريد مقابلتي. للوهلة الأولى، تبادر الى ذهني أن ربما والدتي تكلمت مع أبيها وطالبته بإرجاعي الى البيت. ولكن ذلك لم يكن صحيحًا. بل كان قد أخبره أحدهم أنه رآني على الجبهة فأراد أن يستدعيني لمناقشة الوضع على الأرض. فلما انهيت نوبة حراستي، ذهبت لرؤيته يغمرني شعور بالغضب. لدى دخولي إلى مكتبه، هاجمته مباشرة ومن دون أي محاولة لتوضيح الأمر، فقلت له بعصبيّة:
-"لا يمكنك أن تعامل حفيدك بطريقة متميزة عن الآخرين. أنا اريد أن أكون كباقي المقاتلين. ماذا سيقول رفاقي: أنك تخشى على حياتي؟ وماذا عنهم؟ فأنا لا أقبل بهذا. وحتى إذا اتصلت والدتي بك فلا يجوز أن تفتش عن مكان تواجدي وتستدعيني لإخراجي من الجبهة!
أمام هذا الهجوم "الاستباقي والمفاجئ"، ضحك جدّي من كل قلبه، ثم قال لي عبارة لا تزال تؤثر بي إلى اليوم:
-"ما قلته للتو يشرّفك، بهنّيك". وأكمل قائلاً: يمكنك الآن الذهاب لرؤية والدتك، فهي لا دخل لها بتاتاً بكل هذه القصّة".
مسكينة هي أمي التي ظننت بها على غير وجه حق.
-في مطلع سنة ١٩٧٨، عندما وافق المكتب السياسي على اتفاق لوقف إطلاق النار مع السوريين في الأشرفية. بغضب عارم، قررنا، إلياس الزايك وفادي فرام وأنا، أن نلتقي بالشيخ بيار في بيت الكتائب المركزي لمناقشته في الأمر.
كانت هناك جلسة للمكتب السياسي الكتائبي على وشك الانعقاد، وبالتالي لم يكن لقاؤنا بجدّي حينها، متاحًا. لذا كتبت بضع كلمات على ورقة صغيرة وأعطيتها لمساعدته، سلمى خوري، لكي تسلمها له. ونزلت درج بيت الكتائب وركبت في السيارة التي كان يقودها الزايك. كان مكتوبًا على الورقة ما معناه:" نحن نخوض الحرب ونستشهد، وأنتم تعملون في السياسة على حسابنا ولا تعيرونا أي اعتبار..."
لم يستطع الزايك الانطلاق بسيارته إذ فوجئنا بسلمى واقفة أمامنا، ودعتني قائلة: "الرئيس بانتظارك. اصعد إليه."
لم أكد أدخل إلى مكتبه حتى بادرني الشيخ بيار بغضب شديد: "إن لم تكن مقتنعًا بهذا الحزب فما عليك إلا أن تستقيل وتروح تلتحق بحراس الأرز". لا أعلم لما سمّاهم بالذات. "هل تظن أنك بتفهم أكثر مني وأنك لوحدك تخوض المعارك؟ هل تظن أنني لست رجل ميدان ولا أقدّر ما تقومون به على الارض؟" كان واقفًا وهو يضع يده على منفضة سجائر، وكنت أخشى أن يرميني بها. ولما انتهى كرّر لي: "إذا مش عاجبك فيك تترك الحزب"!
عدت يومها إلى منزلي متأثرا جدّا بما حصل.
بعد بضعة أيام، أتى إليّ والدي وقال: "ماذا حصل مع جدك؟ كنت أزوره وقال لي: أنظر ماذا كتب لي فؤاد...". وقد أطلع جدّي والدي على الورقة التي تركتها مع سلمى. كان يستعملها فاصلا للصفحات في كل كتاب كان يقرأه. وأردف قائلًا لوالدي: "اريد أن أترك هذه الكلمات تحت نظري دائمًا لكيلا أنسى يومًا أن هناك شبابًا يقاتلون ويستشهدون".
كان كلما مر والدي به، يريه الورقة تلك: "أنظر، هذا هو إبنك". فكان قولي للشيخ بيار، وهو رجل الميدان القريب من الناس، إنه لا يكترث لهم، قد جرحه في الصميم. كما أنه لم يتقبل على الإطلاق قولي له إنه يلازم مكتبه، فيما كان محازبوه يقاتلون في ظروف صعبة للغاية.
حينئذ طلب منّي والدي أن أزور جدّي وأن أعتذر منه عمّا بدر منّي. قصدته في منزله في بكفيا، ولما رآني قال لي بهدوء تام: "هل تعلم أنك جعلتني أفكر مليًّا في ما قلته لي؟" كان رجلًا مغايرًا لذاك الذي سبق أن أنّبني. اعتذرت منه وتعانقنا بحرارة، ثم جلسنا وتبادلنا أطراف الحديث. وقلبنا هذه الصفحة الى غير رجعة.
تعلمت من بيار الجميل الكثير وخصوصاً أن نكون المثال الصالح للنزاهة والعطاء والوطنية المطلقة. وقد أوحى لي أفكارًا عديدة منها اعتماد مبدأ الجدارة الذي طبّقه في الحزب. كما كان سبّاقاً في طرح مبادئ المواطنة واللامركزية والحياد والزواج المدني والحرية، والمساواة، والأمان والكرامة.
بعد اغتيال بشير، حاول الشيخ بيار احتضان القوات اللبنانية وأيّد أن تلعب دور المعارضة لقرارات الحكومة، سيّما وأنّه لم يكن باستطاعة حزب الكتائب القيام بذلك، كون رئيس الجمهورية خرج من صفوفه.
بعد وفاة الشيخ بيار، تغير كلّ شيء. زال التوازن الذي كان قائمًا وبدأ زمن الإنتفاضات الذي قاد إلى المجابهة الحاسمة بين وحدات من الجيش اللبناني والقوات اللبنانيّة، والتي أدّت إلى الاجتياح السوري للمناطق الحرة وسقوط سيادة لبنان.
حان الوقت اليوم كي يخرج المجتمع المسيحي من زمن الإحباط والخنوع. حان الوقت للإقتداء ببيار الجميل الذي كان يرفض أن يخضع لايّ معتد، وبقي شامخًا مرفوع الرأس في كل الأوقات التاريخية العصيبة. هكذا كسب ثقة الشعب الذي لم يتأخر أبداً في تلبية ندائه الشهير الذي أطلقه في 24 آذار 1976.